Site icon IMLebanon

في هذه الأثناء

طائرتان روسيتان خطفتا انظار العالم وانفاسه: الأولى مدنيّة في سيناء، الثانية فخر الصناعة الحربية فوق الحدود السورية التركية. الأولى أدّت إلى وقف سفر نحو ثلاثة ملايين روسي إلى شرم الشيخ. الثانية إلى منع أربعة ملايين روسي من السفر إلى تركيا.

سبعة ملايين روسي كانوا يسافرون إلى وجهتين فقط. أيام الاتحاد السوفياتي لم يكن يسافر إلى الخارج سوى الديبلوماسيين و”الخبراء” ومراسلي “تاس” و”نوفوستي”. روسيا الخارجة إلى العالم سرعان ما دخلت في مشاكله أيضاً. وروسيا الرأسمالية تُكبّد من تغضب منهم المليارات. 45 مليار دولار حجم الشركة مع تركيا.

الديبلوماسية الروسية، مثل السوفياتية، تقوم على الصبر في الحالات الشديدة الحرج. هدد نيكيتا خروشوف بحرب نووية في ازمة الصواريخ الكوبية، لكنه عاد فذهب إلى النوم وترك العالم يستيقظ حياً. وعندما طرد انور السادات الخبراء العسكريين السوفيات، أُمِروا بأن يحملوا حقائبهم ويعودوا بلا مذكّرة اعتراض. ورد بوتين على اردوغان كان حاداً في اللهجة، من دون أي مواجهة عسكرية داخل الحدود التركية. واكتفت “السوخوي” بقصف مناطق التركمان داخل سوريا. أو من بقي منهم هناك.

60 % من 22 مليون سوري، على اختلاف انسابهم واعراقهم واديانهم، تركوا ديارهم. والبلد الذي وصفه عبد الناصر بقلب العروبة النابض، نبضت فيه جميع القوميات منذ بداية الحرب، وبُعِثت جميع المذاهب.

خلال 21 سنة تلت الاستقلال، عرفت سوريا 20 انقلاباً عسكرياً، انتهت بـ”الحركة التصحيحية”. لكنها جميعاً لم تترك شيئاً من الضحايا والدمار الذي كدَّسته السنوات الخمس الأخيرة. 75% من السوريين يعيشون في ظروف قاهرة، نصفهم لا يملك ما يسد الحاجات البدائية، كما تقول الأمم المتحدة، وواحد من كل 5 سوريين مهدد بالمجاعة وسوء التغذية. هناك جيل كامل معرض للضياع، تقول “اليونيسيف”، فأكثر من ثلاثة ملايين تلميذ ليسوا في مدارسهم، التي دُمِّرت أو احتلت او خُرّبت، كما تفيد منظمة World Vision. وعدد كبير من هؤلاء وجدوا طريقهم إلى الميليشيات الكبيرة أو جيوش الحارات: الف واحدة على الأقل، أكثرها يشبه زواريب بيروت، ايام الحرب.

دُمّرت ايضاً المستشفيات. وتقرير البنك الدولي العام 2014 يقول إن مستويات العلاج “كارثية”. الكهرباء والماء، خصائص، مثل المطر في الجفاف. من حلب شمالاً إلى تدمر شرقاً، سوريا الماضية قد مضت. حلب التي كانت تُشبَّه في الماضي بحركة نيويورك الاقتصادية، تُشبَّه الآن بخراب ستالينغراد. إعادة إعمار سوريا تقدر بـ 300 مليار دولار، ثمانية اضعاف كلفة اعادة اعمار العراق بعد الاحتلال الاميركي. أما عدد الضحايا فلا رقم حقيقياً له، لكن التقديرات تزيد على 300 الف قتيل وعشرات آلاف المصابين. والأسبوع الماضي أعلن باراك اوباما نفسه كولومبوس الجديد: لقد اكتشف أن “داعش” يشكل خطراً على العالم.

جميع القوى الدولية مارست خبثاً رديئاً حيال المأساة السورية. جميعها تحدّثت بلغة مبهمة فيما يُدمّر بلد بأكمله بكل وضوح. جميعها هربت إلى المؤتمرات والبيانات والتهريجات، فيما كانت سوريا تُبدّد وتضيع، وتتحول إلى حرب أهلية كبرى، بلا توقف أو مهادنة أو رحمة. من موعد في جنيف إلى موعد في فيينا، إلى موعد في القاهرة. لم تتوقف الحرب لحظة واحدة. ولا الموت ولا الخراب ولا مشاريع اقتسام سوريا.

فإن سوريا التي عرفناها قد لا تعود. مثلها مثل العراق. وربما ليبيا. ليس من قوة واحدة قادرة على إعادة الجمع. النظام مُنهك، والمعارضة مفتتة. والقوة الوحيدة التي تتجمع عليها الدول الكبرى هي “داعش”. و”داعش”، يقول الآن السيد أوباما، إنه لا بد من هزيمته، في حين كان وزير خارجيته يقول إن ذلك سوف يستغرق خمس سنوات. تحالف من 65 دولة يقول رئيسه إن ميليشيا مجهولة الأصول لن تهزم قبل خمس سنوات!

كيف يستقبل السوريون الكلام الذي يسمعونه عن مصائرهم؟ كيف اصغوا، طوال أربع سنوات على الأقل، إلى الكلام الروسي المائع، والكلام الاميركي الممل، والكلام الاوروبي غير المفيد، وبيانات الأرشيف في الأمم المتحدة، وزحمة المقاعد في الجامعة العربية؟ مجموعة مقامرين كل واحد يخبئ ورقته من أجل أن يخدع الآخر. لو كانت هناك مجموعة نيات ملتقية حول سوريا لاقتضى الأمر مؤتمراً واحداً، ينتهي إلى صيغة تسوية مقبولة أو معقولة. لكن جميع المؤتمرين كانوا ينظرون إلى ما وراء سوريا. إلى منطقة لا تزال تحركها، بعد مئة عام، مخلفات سايكس – بيكو وتحالفات التراجع والانهزام.

وضعت اتفاقات سايكس – بيكو فوق اشلاء الامبراطورية العثمانية، “رجل أوروبا المريض”، والآن تشتعل المنطقة بحثاً عن خرائط أخرى، في ضوء يقظة السلطنة العثمانية والامبراطوية الايرانية معاً. ففي حين لم تتردد تركيا في اسقاط “السوخوي” بصواريخ أميركية قديمة، لم تتردد المصادر الايرانية في الإعلان عن أن الجنرال قاسم سليماني اصيب بجروح طفيفة في معارك سوريا.

“التحالف” و”الحلف” في حرب كانت بالواسطة ولم تعد كذلك. لكن العسكريين الخمسين الذين أرسلهم أوباما إلى كوباني لمساعدة أهلها، لم يجدوا أهلها هناك. الرعب منعهم من العودة إلى بيوت تحولت إلى رماد في أي حال. حظ السوريين براميل متفجرة لا تتوقف، و”داعش” يبيد كل بقعة تمر بها. وجائزتهم الكبرى، المؤتمرات. لقاءات ومكالمات كيري ولافروف، ثم تصريحاتهما المشتركة. ماذا قال هذان الرجلان حتى الآن؟

كان الاخضر الابراهيمي وسيطاً في أفغانستان قبل أن يصبح وسيطاً في سوريا. ومن تجربة أفغانستان أدرك ما يجري في سوريا. ولذلك، أُبعِد سريعاً. قال الابراهيمي إنه من دون تسوية، سوف تصبح سوريا صومال آخر. يجب أن نتذكره عندما نقرأ أن في سوريا الف ميليشيا اليوم. ويجب أن يتذكره الذين رفضوا مقترحاته وشتموه، وأوعزوا إلى اعلامهم بإهانته. الذي فات جميع المعنيين أن الابراهيمي لم يكن وسيطاً فحسب، ليس كوفي أنان ولا دو ميستورا، بل هو أيضاً رجل عربي معني بدماء سوريا وجدرانها. والوسطاء يرون أكثر مما نرى، لأنهم ملزمون رؤية جميع الزوايا. أول من تكهّن بأن حرب لبنان سوف تطول كان الأمين العام كورت فالدهايم، لأنه رأى المشهد على حقيقته من الطبقة السادسة والثلاثين. وعرف ايضاً، مثل الإبراهيمي، أن الوسطاء لا يحلّون القضايا المعقدة. والحروب الكبرى لا يحلها ديبلوماسي أعزل. وعندما يكون هناك قرار روسي بتحليق “السوخوي” يومياً على الحدود التركية، يصبح هناك قرار سلطاني بجعل “الفانتوم 16” في مواجهة “السوخوي 24”.

ثمة ظاهرة حديثة هذا القرن: الدول الاقليمية في مواجهة الدول الكبرى: ايران في مواجهة أميركا، وتركيا في مواجهة روسيا. الأولى بالتحالف مع موسكو، والثانية مع واشنطن. وكلتاهما تخوضان الحرب في سوريا في كنف العاصمة الكبرى. وكل ذلك يزيد تعقيد المسألة السورية، ناهيك طبعاً بالعراق. على أن القضية العاجلة هي طبعاً سوريا، حيث لا يزال الحل السياسي بعيداً والحل العسكري أبعد منه. ولا يبدو أن التدخل الروسي عجَّل في الحلول. فلا يزال من المعتقد أن لا حل إلا بدخول بَرّي. غير ان ذلك بدوره قد يؤدي إلى نوع آخر من الحروب. وهناك ما يكفي من “الجيوش” الأجنبية على الجبهات السورية. وهكذا، تبقى الفكرة المعقولة “طائف” آخر. ولكن أين، وبأي رعاية؟ فالجميع أطراف في النزاع. وقد تفرّع الآن فروعاً جديدة بعد إهانة الكرملين بسلاح أميركي قديم. الاطلسي لن يكرر انكفاءه في القرم. والحرب الحقيقية في أي حال، هي حول أقدم عاصمة في التاريخ.