لم تترك سلطة الوصاية الأسدية بعد اندحارها من لبنان كل شيء خلفها.. بل تراها اليوم تتابع الاستثمار في بعض تِرْكَتها تلك، وتستأنف “الانتقام” من عموم اللبنانيين عن بُعد مثلما كانت تفعل عن قرب من خلال الأتباع الذين انتقتهم وجعلتهم ناطقين فرعيين بلسانها ومبلّغين صاخبين لرسائلها.
وتلك حِسبة فيها شيء من “العدل”! بمعنى أن التركيبة السلطوية التي امتهنت كرامات ناسها في أرضها بمنهجية تامة ومدروسة ودأبت على تحطيم هؤلاء الناس معنوياً وشَرَفياً بموازاة التحكّم بهم أمنياً، ما كان لها أن “تنتج” في لبنان غير ذلك الذي أنتجته في سوريا! وما كان لها أن تبني “العلاقات المميّزة” مع اللبنانيين وفق سردية “شعب واحد في دولتين” إلاّ على الأساسات ذاتها التي اعتمدتها إزاء السوريين لبناء سلطتها الفئوية الحزبية الانقلابية و”تطويرها” على وقع سلوكيات المافيا و”قيم” الرعاع ومفردات الفظاظة وقلّة التربية وانعدام الأخلاق!
أعطت سلطة الوصاية في زمانها اللبناني عناية خاصة لاختيار صنف محدّد من الأزلام والتابعين والمخبرين المطواعين لتحقيق أهداف عدة منها (أساساً) توليد إزدواجيات وثلاثيات ورباعيات في البنى القيادية الحزبية والطائفية على تعدّدها وتنوّعها. وهؤلاء يُؤتى بهم من “تحت” ومن “الوراء” ويُوضعون “فوق” وفي “الأمام”! وهذا يعني حُكماً صيرورة تبعيّتهم تامّة ومكتملة ولا تشوبها شوائب التفلّت أو التكبّر، أو شبهة عضّ اليد التي رفعتهم! وصنعتهم! ونفختهم أكبر بكثير من أحجامهم وأوزانهم وأحوالهم في الإجمال!
والعناية بتلك “الأشكال” كانت تعني ضمان الزبائنية بمناصب رسمية أو حزبية.. وبفتح الأبواب أمام التمكّن مادياً من طرق الابتزاز ومشتقاته، ورفدها في “سعيها” المحلّي اللبناني هذا بما يلزم من توصيات ورضاءات وتوجيهات وتعليمات ورعايات القائم بأعمال السلطة الوصائية وتوابعه المباشرين وبشكل يؤمن دائماً مردوداً مادياً فرعياً يُضاف الى المردود الأصلي الذي هو إحكام السيطرة والسلبطة على كل شاردة وواردة في لبنان الدولة والمؤسسات والاجتماع السياسي والحزبي والأهلي بكل تشعّباته وألوانه واختلافاته!
أحد أبرز شروط استحقاق عضوية نادي الاستلحاق والتبعية هذا، هو تمتع “المرشح” بخاصية الابتذال والسفاهة واستعداده الدائم والتلقائي لترجمتهما في كل اتجاه وفي أي لحظة وعند أدنى إشارة من الوصيّ.. ومن دون أي ضوابط أو لواجم ذات صلة بمكارم الأخلاق! أو بأدب الخصام! أو باللياقات المعتادة بين البشر!
كان للسلطة الأسدية حلفاء مرموقين في لبنان. بعضهم دائم وبعضهم مستجد تبعاً لمستجدات السياسة والمواجهات وتعاقب التغيير في الأمرين على مدى ثلاثة عقود وأكثر.. ومن هؤلاء من لا يُدين لها بنفوذه وحيثيته ووجوده وتاريخيّته، لكنها لم تحترمهم بقدر ما احترموها! ولم تقدّرهم بقدر ما قدّروها على دورها العام اللاجم للسلاح الفلسطيني والميليشيوي اللبناني والمساعد على وقف الحرب وويلاتها.
اختارت تشذيب الجميع تحت سقف سلطتها المطلقة.. بعضهم بالعنف المادّي الملموس والمباشر، وبعضهم بتفريخ فقّاعات صوتية على جوانبهم وإدراجها في عضوية نادي الاستلحاق والتبعية الفرعي ذاك. وبعضهم بالأسلوب الذي يجعلهم متيقنين دائماً من أن أي محاولة للتفلّت الاستقلالي عنها أو مخالفة سياساتها تعني وضعهم على الرفّ وإن بطريقة “أخوية” وأقلّ فظاظة من تلك التي تُعتمد مع غيرهم، وتتلاءم مع كونهم مُصنّفين في خانة الأصدقاء”!
.. بعض الإسفاف المعيب والمنحطّ الذي يحصل في هذه الأيام هو “أبلغ” ما بقي عندنا من آثار سلطة الوصاية المندحرة تلك! والأكثر “تعبيراً” عن حقيقتها و”ثقافتها” وسياساتها التي حوّلت سوريا، في المحصّلة، من دولة مقتدرة الى نكبة مكتملة!