سأتّكل على الله وأشكك بالعمق وعلى السطح بالفرضية القائلة إن بعض المستجدّين في هوى الرئيس سعد الحريري إنما يفعلون ذلك لأنهم مبدئيون وليسوا انتقائيين أو كيديين أو منتهزي فرص! ويهمّهم أن تكون «كرامة» رئيس حكومتهم مُصانة ومحفوظة بغضّ النظر عن الاختلافات السياسية والاجتهادات المتضاربة والارتباطات المتنافرة! وأنهم فوق ذلك يضعون تلك الخاصّية المبدئيّة في صُلب جهدهم وعملهم الوطني العام… أي يبدون تلك الحساسية المفرطة إزاء أي محاولة للمسّ بالرموز السيادية والوطنية ويُشهرون الرفض لأي «تدخل» خارجي في الشؤون المحلية! بل ويعتبرون أي محاولة في ذلك الاتجاه «عيباً» كبيراً! و«إهانة» لا تحتمل! ولا يرضى بها أحد!
ولأنّ النقر في التفاصيل «القديمة» يرفد التشكيك بكل مَدَد ممكن، فإن الركون إلى العموميات الراهنة يكفي بدوره للدلالة على المُراد… وفي ذلك مثلاً، أنّ «الحساسية» الوطنية عند جماعة المحور الإيراني تبدو منعدمة وممسوحة بالأرض إزاء جملة إهانات كبرى وجّهها مسؤولون إيرانيون رفيعو المستوى للدولة اللبنانية في الآونة الأخيرة. ومنها قولة الشيخ حسن روحاني إن لا شيء يتقرر في لبنان (وغيره) من دون إرادة طهران! أي إنّه بجملة واحدة بسيطة ومباشرة مسَحَ تماماً «إرادة» اللبنانيين ومؤسساتهم! وسيادتهم والرموز الشرعية فيه! وألغى بوضوح أدوار رؤسائه وسلطتَيه التنفيذية والتشريعية، واعتبر أنّ هذه كلها، بما فيها تلك المشمولة بألطاف الحلف السياسي والمذهبي مع إيران، لا تساوي شيئاً في الحساب الأخير. وأن لا قيمة لأي رأي لديها أو دستور تعمل بموجبه، أو أي «حساسية» وطنية تبديها، إذا ارتأت طهران شيئاً آخر!
ثمّ تلاه في القنص والإمحاء والإلغاء مستشار «المرشد» الأعلى وموفده إلى لبنان وزير الخارجية في ثمانينات القرن الماضي علي أكبر ولايتي.. الذي لم يجد مكاناً غير السراي الحكومي وبعد لقائه الرئيس الحريري، كي يعلن أنّ إيران «هي التي تحمي لبنان» وأن هذا البلد «المحظوظ» هو جزء من «المحور الانتصاري» الذي تقوده (وتملكه) إيران، وأن لا قيمة كبيرة أو صغيرة، ثقيلة أو خفيفة، مهمة أو تافهة، لكل الردح القائل بأنّ لبنان جزء من محيطه العربي وملتزم بمواثيق جامعته! وبالروابط التي تحكم علاقاته وتاريخه ومصالحه العليا والسفلى مع ذلك المحيط والعمق.. وإن إيران قرّرت شيئاً مضادّاً وأخذته بجملته وليس بمتفرّقاته إلى جانبها.. ونقطة انتهى النقاش!
لم ينفعل أحد من المستجدّين بالهوى السيادي الراهن، ولا الآخذين على خاطرهم جرّاء المسّ بـ«الكرامة» الوطنية! إزاء ذينك القولين الكبيرين للشيخ روحاني وللمستشار ولايتي! ولم ينفعل هؤلاء لا من قريب ولا من بعيد، ولا جهراً ولا خفراً قبل ذلك بشهور قليلة، عندما قال جنرالات «الحرس الثوري» إنّ حدود بلادهم صارت في جنوب لبنان! أو إن الذين يقاتلون ويموتون في سوريا من عناصر «حزب الله» إنما يفعلون ذلك «دفاعاً عن إيران» (حرفياً!) وليس غير ذلك! لا مقاتلة لـ«التكفيريين» و«الإرهابيين»! ولا منعاً لـِ«سقوط» سوريا في يد الصهاينة! ولا ذوداً عن حدود لبنان! ولا دفاعاً عن استقراره! ولا ترسيخاً لسلمه الأهلي! ولا حتى «حفظاً لخط المقاومة» أو «دفاعاً عن المراقد المقدّسة»!
كل هذا الضخّ التعبوي الذي اعتمده «حزب الله» حليف إيران الوثيق الموثوق، لتبرير ذهابه لمقاتلة شعب سوريا، محاه جنرالات «الحرس» تماماً في مقابل تأكيد أولويّة «الدفاع» عن إيران! و«عادية» مقتل شبّان لبنانيين من أجل ذلك!
.. في العودة إلى ما قبل هذا، «نكء للجراح» على ما يقول هؤلاء المستجدّون في الهوى السيادي! لكن ذلك لا يُبطل مفعول الجاذبية في استذكار مواقفهم التي لم تطوها الريح بعد! ولم تأخذها بعيداً خلف المستجدات الحاصلة. ومن ذلك موروثهم المتراكم إزاء آل الحريري تحديداً، والقوى السيادية في 14 آذار عموماً! والاتهامات التخوينية التي تهدّ الجبال! والممارسات الفتنويّة التي «تفتّت الصخور»! والارتكابات الميدانية التي أوغلت في الدم! والمطوّلات«التحليلية» التي جعلت وتجعل من كل آخر في السياسة والدين والمذهب، عميلاً موبوءاً مرتبطاً بأجندات أجنبية وتكفيرية وإرهابية وأميركية وإسرائيلية!!
هذا الهوى السيادي المستجدّ، وهذا الحرص على «الكرامة الوطنية»، وهذه الغيرة على الموقع الدستوري لرئاسة الحكومة، وغير ذلك الكثير من التفاصيل والعموميات لم تكن موجودة عندما قُتِلَ رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري غدراً وسفك دمه على الأرض! وليست موجودة ولن تكون موجودة، عندما يكون الجاني والمرتكب والمتطاول والمستهتر والمعتدي، إيراني أو أسدي الهويّة!