IMLebanon

في اللامعلن حول المحادثات التركيّة ـ السعودية

المؤكّد أنّ زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز لتركيا لم يكن هدفها الأوّل تسلّم وسام الجمهورية التركية من الرئيس رجب طيب أردوغان تقديراً لجهوده التي بَذلها تحديداً في العام الأخير لتفعيل مسار العلاقات التركية ـ السعودية حيث ساهمَ في إنجاز 6 قمَم بين البلدين على أعلى المستويات، بعيداً من الأضواء وبديبلوماسيةٍ هادئة توّجت بإنجاح زيارتي العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لتركيا خلال عام واحد، وزيارات أردوغان الثلاث للرياض خلال الفترة نفسها.

توقيتُ الزيارة هذه المرّة، وهي زيارة أوّل قيادي سعودي رفيع المستوى لتركيا، بعد تعرّضها لمحاولة انقلاب فاشلة في 15 تمّوز الماضي، وبعد التحوّلات الإقليمية والدولية الكثيرة والتعقيد المتصاعد في ملفّات المنطقة والتغيير الواسع في سياسة تركيا الخارجية، خصوصاً نحو روسيا وعقب كثيرٍ من اللقاءات والزيارات لمسؤولين أوروبّيين وأميركيين وسبَقها بيومٍ واحد وجود وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في أنقرة ويعقبها بعد عشرة أيام زيارة استراتيجية للرئيس الروسي فلادمير بوتين، يؤكّد أنّها زيارة متعدّدة الجوانب والأهداف، وقد تحمل عدداً من المفاجآت والتحوّلات على المستوى الإقليمي.

الزيارة تمّت تحت عنوانين عريضين، أحدهما مسارُ ومستقبل العلاقات والتنسيق الثنائي في القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية، والثاني تفعيل تقاربِ رؤى الجانبين تجاه عدد من الملفات الإقليمية وعلى رأسها الملف السوري. لكن خلال الزيارة ناقش الطرفان كثيراً من القضايا الساخنة، بينها الإجابة على عدد من الأسئلة:

ـ هل من المحتمل أن ترفع الرياض من مستوى دعمِها السياسي والعسكري لتركيا في عملية «درع الفرات» عبر زيادة المساعدات العسكرية المقدّمة لـ«الجيش السوري الحر»؟

ـ أيّ نوع من الخدمات المتبادلة يمكن أن يقدّمها كلّ جانب للآخر على المستويات الثنائية والإقليمية؟

ـ هل يحدث أيّ تحوّل أو ليونة سعودية حيال إيران بناءً على وساطة تركيّة قد تتمّ حيث لا يمكن تجاهل توقيت وجود وزير الخارجية الإيراني ظريف في أنقرة قبل يوم من قدوم الضيف السعودي؟

ـ هل علينا أن نتوقّع مفاجآت جديدة في المدى القريب حيال الملف السوري بعد تراجعِ الحلّ الأميركي ـ الروسي ليبرز حلّ إقليمي هذه المرّة؟

متغيّرات السياسات الاقتصادية والإنمائية في البلدين وتوتّرها مع الولايات المتحدة الاميركية، خصوصاً في الجانب السعودي، بعد تراجع معادلة الأمن الأميركي مقابل النفط الخليجي، والتقارب بين واشنطن وطهران بعد الاتّفاق النووي وتراجع أسعار النفط بمقدار كبير، وغيره من التحوّلات الإقليمية والدولية شكّلت الحافزَ الأهمّ في اتّجاه تسريع تفعيل قرار إنشاء «المجلس الاستراتيجي المشترك» وضرورة ترجمة كثير من القرارات على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية.

إقتصادياً أيضاً، صحيح أنّ ضرورات التعاون والتنسيق الاستراتيجي هي التي كانت تتصدّر ملفات المحادثات الثنائية في اللقاءات الأخيرة بين قيادات البلدين، وأنّها لم تُترجَم عملياً على الأرض كما هو معَدّ ومخطّط لها، باستثناء رفعِ مستوى التبادل التجاري من 5 مليارات دولار إلى 8 مليارات في الأعوام الاخيرة، وأنّ هذا التعاون بين أنقرة والرياض بقيَ ضعيفاً بالمقارنة مع حجم أرقام التبادل التجاري بين تركيا وإيران، أو تركيا وروسيا، أو بين تركيا وكثير من الدول الأوروبّية.

أمّا على صعيد التعاون العسكري، فالمعلن هو النقلات النوعية والتعاون المتنامي، في مجال مبيعات الأسلحة الحديثة وتبادل الخبرات العسكرية ومشاركة المقاتلات السعودية في التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» والمناورات الحربية المشتركة حيث أقيمت 4 مناورات عسكرية بين الجانبين خلال السنة الجارية وحدها.

في القضية السورية حيث تتطابق رؤى البلدين في حتمية رحيل نظام الرئيس بشّار الأسد، ودعم المعارضة السورية، والتشديد على الحلّ السياسي للقضية، مع ضرورة حماية السيادة السورية ووحدة البلاد، هناك سيناريو تسوية يتقدّم ببطء، كما يبدو من البعيد.

المحادثات تطرّقَت حتماً إلى مشروع «المنطقة الآمنة» في شمال سوريا، التي تسعى تركيا منذ سنوات لتطبيقه، خصوصاً بعد نجاح أنقرة في إنجاز الهدفين الأساسيَين للعملية، إبعاد «داعش» عن الحدود التركية ـ السورية، وتعطيل مشروع حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري في ربط الكانتونات الكردية بعضها ببعض تمهيداً لفدرالية هشّة في منطقة شمال سوريا.

الحكومة التركية قد تطالب الرياض بدعمٍ اقتصادي إنمائي للمنطقة يحوّلها نقطة استقرار أمني تساهم في حلحلةِ أزمة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين وتكون نموذجاً لحالات أخرى في الأردن ولبنان مثلاً، ويكون هذا التنسيق فرصة لتقريب المواقف في إيجاد حلول سياسية جديدة لملفّ الأزمة السورية بعد الانسداد في مسار الحلّ الأميركي ـ الروسي وجمود المبادرات والخطط الأممية والأوروبية، وهذا ما تناقشه تركيا اليوم مع القيادة السعودية، وهي تعرف أنّ العقبة الأولى ستكون الوصول إلى نقاط تفاهم مشتركة تَجمع اللاعبين الإقليميين وعلى رأسهم السعودية وإيران.

البراغماتية التركية التي قد تفتح الأبواب أمام النقاش في تهدئة سعودية ـ إيرانية، خصوصاً في ملفّات ساخنة بينها السوري واليمني واللبناني، وهو طرحٌ ردّد ونوقش في أكثر من لقاء من دون أيّ نتيجة إيجابية حتى الآن. لكنّ أنقرة لا يمكنها أن تذهب بعيداً في تبنّي هذه الوساطة كونها هي أيضاً طرفاً ينسّق مع الرياض مباشرةً في هذه الملفات، خصوصاً إذا ما تمسّكت القيادة السعودية بتحوّل جذري في مواقف إيران حيال هذه المسائل قبل أيّ خطوة من جانبها.

لكن مع ذلك ينبغي عدم المبالغة في الرهان على التوسّط التركي، طبعاً إذا ما أخَذنا في الاعتبار ما حدث في منتصف الصيف المنصرم عندما رأينا كيف أنّ الموقف الحيادي الذي تبنّاه الناطق باسم الحكومة التركية نعمان كورتولموش، حول ضرورة الاعتدال والتهدئة بين إيران والسعودية صحَّحه الرئيس التركي في اليوم التالي عندما قال: «من التزموا الصمت إزاء قتلى سوريا يُحدثون جلبةً الآن لإعدام سجين واحد في السعودية (… ) الإعدامات في السعودية مسألة داخلية بحتة».

قبل أشهر كان النقاش يتقدّم على الشكل التالي: معظم الأتراك يرون أنّ الخاسر الأكبر والرئيسي في قطعِ الرياض علاقاتها مع طهران هي روسيا، حيث تتعدّى حدود خسارتها نفوذها في المنطقة أكثر من إيران نفسها، وهي خدمة قد تكون الرياض قدّمتها لتركيا قصداً أو بلا قصد بعد

حادثة إسقاط المقاتلة الروسية، وهو الحافز الأهم الذي يَدفع تركيا إلى التزام الوقوف بجانب السعودية، بعيداً عن الحيادية، أو فكرة التوسّط بين الطرفين. أمّا اليوم وبعد قرار إنهاء التوتّر التركي ـ الروسي فإنّ أنقرة تريدها فرصةً لتبريد الأجواء الإقليمية وإطلاق خطة حَلحلة في الأزمة السورية على مراحل وبالتنسيق مع اللاعبين الفاعلين في المنطقة بدعم أميركي أوروبي.

الناطقة باسم الخارجية الروسية تتحدّث عن تنسيق أوسع بين أنقرة وموسكو في التعامل مع الملف السوري. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقول إنّ التنسيق الروسي ـ التركي على الأرض في الملف السوري بين الاحتمالات المرتقبة.

الرئيس الروسي فلادمير بوتين يستعدّ لزيارة أنقرة الاسبوع المقبل، كلّها مكعّبات لو تمّ تجميعها في إطار المنطق الروسي تدفع في اتّجاه طرح السؤال حول احتمال وجود خطة روسية ـ تركية بديلة بعد فشل الخطة الروسية ـ الاميركية، وهل الحراك الديبلوماسي التركي الأخير والمتعدد الاتّجاهات مقدّمة لهذا التنسيق مع روسيا؟

هل التدخّل الروسي في سوريا الذي مضى عليه عام كامل بات يحتاج إلى قوّة دفعٍ جديدة في اتّجاه إخراج موسكو من ورطتِها ومساعدة تركيا على تحقيق أهدافها المعلنة واللامعلنة في «درع الفرات»؟