IMLebanon

في مقامات ممانعة..

 

في بعض هذا السرد تَبرُّم من زمن الانحطاط وظواهره وفظاظته النافرة. واعتراض متواضع على ضمور أدب الكلام وكلام الأدب وعبث محاولات التأثير المعاكس في مسارات السفاهة طالما أن هذه تعتمد التورية بكثافة، والتزويق بوقاحة، فتجعل من الموتور حيثية نضالية لا تستقيم أمور “الأمة” وممانعتها وعنادها من دون مساهمتها المخزية فيها!

 

ولطالما كانت مبعث دهشة حرزانة، تلك الظاهرة التناقضية والتنافرية: تُستخدم أحطّ الأساليب وأرذلها وأشنعها لتسويق “مقدسّات” ومثاليات ومكرمات عظيمات! وتُعتمد لغة سوقية جائرة لتأكيد “رفعة” القضية وعلوّ كعبها وصلابة “حقّها”! وتُستحضر “أدبيات” الرعاع لتعميم وتبرير فرادة النخب الآخذة على عاتقها مهام “إيقاظ” النيام! وقيادة مسار التنوير والتثوير بعيداً عن الظلام والاستسلام!

 

والتبليغ والنشر والإعلام في هذا المقام توليفة فرعية آتية من متن أعمّ وأشمل. بحيث تُوضع أطر ماسيّة مذهّبة لتغليف مضمون تنكي بالكامل! والحرص على التزويق التزويري هنا يقارب الشغف بالفحش والفجور. كأن يُكثر الشموليون الاستبداديون الاختزاليون من استخدام مفردة الحرية! وأن تُوزّع بحميّة استثنائية مصطلحات “السعادة” و”الرفاه” من قبل أنظمة بوليسية وصلت بالعنف ولا تملك إلاّ الإكثار منه لضمان بقائها ودوامها فتشيع البؤس والكآبة وتُعمّم الإفقار والإملاق قصداً ونهجاً وأدلجة! أو أن تُكثر التركيبات الحزبية الفئوية الانقلابية من مظاهر “المؤسسات” الدستورية وأشكالها القانونية في موازاة لغو لجوج ودؤوب ومستدام بالعموميات المنسلّة والمشتقّة من جذر واحد يتماوج بين “جماهير شعبنا” من جهة و”أمتنا العظيمة”، من جهة ثانية!

 

.. عندنا في لبنان بعض من ذلك وإن على مستويات غير نظامية أو “رسمية” وفي مقدمها الإعلام! وفي ذلك يُستعاد الكلام تبعاً لدوام الحال الانحطاطي، بل تبعاً لـِ”تطوّره”! وفي هذا قيل ويُقال إنه “لطالما ابتليت صحافة لبنان بالدخلاء عليها. وبمدّعي الانتماء الى أطرها وطبائعها ومناخاتها.. لكنها أيضاً لطالما كانت على رحابة كافية لأخذ هؤلاء تحت ظلال أوراقها حتى لو كان السمّ عدّتهم الوحيدة وصنو الحبر المدّعى!

 

وصحافة لبنان كانت مثل لبنان وتركيبته وتعدّديته وفرادته وانفتاحه وكثرة تفلّته. وهي فوق ذلك على غواية آسره شدّت العيون إليها وأعطتها ريادة في محيط ملجوم ومتعطّش للضوء.

 

وجاءها من كل حدب خُطّاب وعرسان! بعضهم لردّ الأذى والضيم والتحامل والافتراء. وبعضهم لتغيير العالم، وغيرهم لتحريره! وبعضهم لإشاعة رؤاه ونظريّاته. أو لشن حروب وخوض معارك وتصفية حسابات وتدبير انقلابات من على صفحاتها… وكانت التركيبة المحلية دستورياً وقانونياً متآخية مع طبائع الانفتاح المتراكمة فوق حقيقة كون اللبنانيين متعدّدي المذاهب والأديان والانتماءات والفظاعات.. ومعتادون في الإجمال على الفوضى، ومتواطئون في الوقت نفسه على وصفها بالحرّية!

 

ولا ينكر سوى قُصَّر أن صحافة لبنان واكبت جموح اللبنانيين.. ومثلهم تماماً نجحت في دولة شبه فاشلة. وتطورت في ظل نظام تكربج في مكانه، ولم يتحرك محوّره إلا عندما نُسف من أساسه! وطارت الجمهورية بأهلها ومؤسساتها قبل أن تعود وتحطّ على أرض تغيّرت ملامحها وطبائع أهلها!

 

وكثر تطاولوا على المهنة من خارجها، وحمّلوها أوزاراً فوق طاقتها وإمكاناتها واتّهموها بما ليس فيها.. وهي التي كانت ولا تزال افتراضياً ومبدئياً برغم تبدّل الزمن وتطوّر آلة الإعلام في الإجمال، تُعنى بالقلم وليس بالسكين وبالحبر وليس بالدم وبالمطبعة وليس بغرف العمليات العسكرية..

 

وكثر من أهلها ومن المفترين عليها يعرفون يقيناً أن مثالب الانحطاط المرافقة للحروب والانقسامات والفوضى والفلتان وتحكّم الرعاع بالشارع، بقيت قاصرة عن التمكّن من المهنة ومناخاتها. ولم يحجب هذه الحقيقة ودقّتها، شيوع ثقافة نزالية قتالية تعبوية مواكبة للحرب التي دارت على الأرض.. وفي هذا احتوت صحف لبنان على ما يمكن أن يكون أرقى تنظير من نوعه لضمور الكلام وموت السياسة! ثم لتفخيم الموت طالما أن “القضية مقدّسة” وكل شيء يهون إزاء المقدس!

 

لكن حتى في تلك الأيام الكالحات، الكلسيات الأسيديات الحارقات بقيت صحافة لبنان أمينة لطبيعتها: لم يتسلّل إليها العَسَس إلا قسراً وتعطيلاً ونسفاً واعتداء. ولم تُرحَّب بالسفاهة والإسفاف إلاّ مضطرة ونقلاً عن غيرها ونشراً لنتاجات ذلك الغير، أكان تنظيماً سياساً أو مخلوقاً هجيناً يدمج السياسة بالأمن أو العسكر أو الميليشيا.. وحتى في النشر والنقل كانت أخلاق المهنة والاجتماع محفوظة في كل حين! كانت الشتيمة تُمحى. والافتراء يُوضع بين مزدوجين! والإسفاف لا يمر! والتهديد غير وارد.. والرعونة في مكانها: في الشارع وليس في الصحيفة!

 

كسَر تطوّر الزمن وآليات الاتصال ووسائله، الصحافة المكتوبة في كل مكان، وفي لبنان بطبيعة الحال. ولكن، ولا مرّة شعَرَ أهل هذه المهنة بانكسارهم مثلما هو حاصل راهناً وفي زمن ممانعة آخر زمن.. حيث السفيه صار يُسمّى صحافياً! والموتور كاتباً! والمنحطّ بنّاء! والمعتوه منظّراً”!