سرقت بعض التركيز على اتفاق سوتشي الخاص بإدلب، قصّة إسقاط الطائرة الروسية “بنيران صديقة” وهي في كل حال، قصّة قصيرة وعابرة وسرعان ما طوى صفحاتها المعنيون بها: الروس الضحايا، والإسرائيليون المسبّبون، والأسديون المرتكبون.
والإصرار على عابريّة الحادث وعرضيّته من قبل الروس أولاً وأساساً متأتٍّ من جملة اعتبارات. أوّلها أن هناك تقصيراً ذاتياً عملياً وبشرياً، عدا كونه مُحرجاً، خصوصاً وأن جذره التقني وليد قرار سياسي يتمثل مثلما هو معروف ومُشاع بتفاصيل التفاهم الروسي – الإسرائيلي وعناوينه إزاء سوريا والمصالح المتبادلة فيها وانطلاقاً منها، والذي يشتمل على تنسيق ميداني عسكري مفتوح. وهذا يعني من جملة معانيه، أن تتصرّف إسرائيل كما تشاء من ضمن مدوّناتها التي تضع إيران وميليشياتها و”مستشاريها” في خانة “الإرهاب” المطلوب “القضاء عليه”، بالغارات الجوية المتتالية!
“الشرط” الوحيد الذي وضعته موسكو، مثلما تمّ التذكير به بالأمس تحديداً، هو امتناع الطيران الإسرائيلي عن الإغارة على أهداف محاذية لمواقع العسكر الروسي.. أما غير ذلك فلا مشكلة! ثم على هامش هذا المبدأ الماسّي، ومن أجل منع أي خلل في تطبيقاته، هناك موجبات التنسيق التي تعني الإبلاغ المسبق عن كل تحرّك مزمع للطرفين جويّاً! بما يسمح للطرف الروسي تحديداً باتخاذ “تدابير وقائية” من ضمنها، إطفاء منظوماته الدفاعية، (كما سبق الافتراض).. أي أن هذا التدبير الوقائي الروسي هو الذي أدى الى حادثة الطائرة في النتيجة!
ثم بعد ذلك، فإن “التوضيحات” الإسرائيلية أضافت على الحرج الروسي ولم تقلّله من خلال إعادة تأكيد المعروف، وهو أن إسرائيل تستهدف بموافقة روسية مسبقة، كل البنى العسكرية والتسليحية ذات الصلة بإيران و”حزب الله” بما في ذلك منشآت تابعة لبقايا السلطة الأسدية حتى لو كانت هذه على بعد خطوات من قواعد الروس في الشمال السوري!
والفحوى الضحل والعميق لهذه “القصّة” ليس عند الروس ولا عند الإسرائيليين ولا حتى عند الأتراك.. بل هو أولاً وأساساً عند الإيرانيين وملحقاتهم الميليشياوية في “حزب الله”، الذين تلعب الأقدار لعبتها ضدّهم لتظهر كم أن تهافتهم الفتنوي لا سقف ولا حدود له! وكم أن جموحهم القومي – المذهبي لا ضوابط مفهومة أو معلومة له! وكم أن ثباتهم على هدف الفتك بالآخر العربي والمسلم (الأكثري) يعني استعدادهم للعمل في سبيله على الأرض حتى لو أفضت “إلتباسات” المعركة الى أن تكون إسرائيل “في الصورة دائماً! وأن تكون تغطيتهم الجوية الروسية مربوطة بغرف عملياتها العسكرية!
.. القصّة الأهم هي إدلب، وهذه فأل سيّئ لمحور “الانتصارات الإلهية” والوضعية الذي تقوده إيران نظرياً وروسياً عملياً. وعلى أسوارها تُكتب علامات الهشاشة والتهتّك لكل “أبطاله”: بمجرّد أن أظهر الأميركيون شيئاً من الجدّية إزاء تطورات ومآلات هذه النكبة، عاد كل فرقاء ذلك المحور الى أحجامهم الطبيعية! “اكتشف” الروس مجدداً فضائل الأنسنة! وإمكانية نجاح الفصل بين الجماعات الإرهابية وعموم السوريين بعد أن كانوا يقولون ويتصرّفون بمقتضى ذلك القول، إن “كل المعارضين” للطاغية بشّار الأسد هم “إرهابيون”! واكتشف الإيرانيون بدورهم تلك الفضائل بعد أن قالوا على الأرض وعلى لسان وزير خارجيتهم محمد جواد ظريف ومستشار “المرشد” علي أكبر ولايتي بعد “تسليم” الغوطة لهم ولتابعهم، أن “المعركة مستمرة والخطوة التالية هي تحرير إدلب”! ومن دواعي الاستطراد وليس من باب القيمة والوزن، يذكر أيضاً أن بقايا السلطة الأسدية بلعت ألسنتها! وأعلنت “موافقتها” على اتفاق سوتشي! وهي التي ملأت الدنيا ضجيجاً وحشداً وتحضيرات على “الطريق لتحرير إدلب”!
والمفارقة القارصة، هي أن “العامل الكيماوي” كان حاسماً هذه المرة لكن في منع إكمال المذبحة في إدلب، بقدر ما كانت الجغرافيا، بل أكثر: سقوط المدينة وكل توابعها كان شبه مستحيل بالطرق والأساليب القتالية التقليدية، والبديل الوحيد عن ذلك الاستعصاء هو استخدام السلاح الكيماوي واتهام الضحايا بذلك الاستخدام! لكن هذه المرة لا يوجد باراك أوباما في البيت الأبيض بل دونالد ترامب! وهذا وإن كان مهجوساً بالحرب على الإرهاب، فإن توصيفاته ليست انتقائية على غرار سلفه السيّئ الذكر، بل شاملة! وأجندته إزاء المنطقة في مجملها وإزاء “العامل” الإيراني السلبي فيها ليست منتقاة ولا جزئية. وهذه تعني، أن إدلب جزء من الوضع السوري. هذا جزء من خريطة انتشار “النفوذ” الإيراني! وهذا “النفوذ” جزء من مدوّنة سلوك طهران العامة والمشتملة على “الملف النووي”. وتلك المدوّنة مطلوب “تعديلها” في أدنى الحالات، ومواجهتها لكسرها في أقصاها! ومن بدأ بالانسحاب من “الاتفاق النووي” “الكبير” لن يغص بمقاربة متحدّية في الملف السوري “الصغير”.. وإدلب بهذا المعنى عنوان: سقوطها سيعني تمدّد وتمكّن إيران وتابعها في دمشق.. والعكس صحيح!
.. سقوط طائرة “السوخوي” الروسية بنيران الأتراك في تشرين الثاني 2015 تزامن مع انطلاق الموجة التي انقلبت على المعارضة ومناطقها! وسقوط طائرة الشحن الروسية بالأمس بمضادات “صديقة” مقابل شواطئ اللاذقية يتزامن مع إتفاق سوتشي الذي كسر تلك الموجة، وأطلق مرحلة جديدة تبدو في مطالعها أن أخبارها لا تسرّ خواطر أهل المحور الإيراني – الأسدي أبداً!