لن تكون سهلة مهمّة حيدر العبادي في لملمة الوضع الميداني بعد إعلانه القضاء على «داعش» ودولته المدّعاة في العراق.. وفي ترجمة إرادته السياسية المتناغمة مع إرادة المرجع الأعلى في النجف آية الله علي السيستاني، والقائلة بضبّ السلاح الميليشيوي وإنهاء ظواهر العسكرة خارج الأطر الشرعية، وردّ الأُمرة وحصريتها إلى القوى النظامية.
ما يتطلّع إليه رئيس الوزراء العراقي بالاستناد إلى المرجع النجفي الأعلى، هو إعادة لملمة وتجميع «الوطنية» العراقية بالقدر الذي «تسمح» به تراكمات الأعوام الماضية وما شهدته من تشظّ مذهبي عنيف ومرير وشديد الوضوح! ثمّ إعادة (أو لنقل محاولة!) إعادة ترميم الدولة، بنياناً ومفهوماً، باعتبارها (مثل لبنان بالمناسبة!) البديل الوحيد المعقول برغم نسبيته، عن المشاريع الخاصة، المذهبية والقومية التي دغدغت غرائز البعض وطموحاتهم، وأخذتهم بعيداً.
وقضية السلاح غير الشرعي وميليشيات «الحشد الشعبي» وغيرها، هي نقطة الانطلاق في ذلك المسار الطويل، وليست الخاتمة. والعنوان العملي الأبرز والأكثر إلحاحاً للمرحلة التالية على هزيمة الإرهاب الداعشي وانتشاره الجغرافي.. لكن ثقل موقف المرجع السيستاني وجذريّته لا يعوّضان تماماً عن «حضور» الثقل الموازي المتراكم على مدى الأعوام الماضية، لـ«المرجع» الآخر في طهران بين قوى عراقية تقف على يمين العبادي ويساره، وتعتمد سياسة استلحاقية ببُعد ديني مذهبي خالص. وتفترض أن «تصفية الحساب» مع الآخر لم تُستكمل بعد! وأن «تقليد» «المرشد الأعلى» الإيراني أكثر نجاعة في هذا المجال، من تلبية الدعوات إلى «الخروج من التاريخ» والتزام «مشروع» الدولة الوطنية بما يعنيه ذلك تحديداً، من كبت شهوة «الثأر» و«الانتقام» من «أحفاد» «مضطهدي أهل البيت»!
وأبرز وجوه إيران العراقية هو نوري المالكي! وهذا يجمع ويختصر في شخصه وتبعيته جملة خصال متهافتة كثيرة، أولها العصبية المذهبية في أقصى انفعالاتها. وثانيها ريادة في الفساد، تجعله على تنافر أكيد مع أي قيامة لـ«الدولة» ومؤسساتها (الرقابية مثلاً!) وثالثها التماهي مع المشروع الإيراني باعتباره عنواناً تصادمياً مزدوجاً: ضدّ نهوض الوطنية العراقية التي تحيي الكيان الدستوري (المخيف!) وضدّ البُعد العربي الذي يعني إعادة ربط ما إنقطع من أواصر وحبال مع الجيران الخليجيين عموماً والسعودية خصوصاً!
قيس الخزعلي تفصيل على هامش هذه اللوحة المالكية.. مثلما أن «عصائب أهل الحق» التي قرّر تسليم سلاحها، تبقى تفصيلاً هامشياً أمام البنى والكيانات الميليشيوية الأخرى التي يرعاها الجنرال قاسم سليماني مباشرة، والتي يبدو من المسار الاستنفاري العريض الذي صعّدته إيران في وجه الدعوات (والاستعدادات؟!) لتقليم أظفارها ولجم تدخّلاتها خارج حدودها، أنها ستكون غير معنية لا بدعوة المرجع السيستاني لحصر السلاح في يد الدولة، ولا بإرادة العبادي المشابهة!
ما يمكن أن يُفهم من السياق العام والواضح للسياسة الإيرانية الراهنة، هو أن العبادي «سيكتشف» أن مشكلته مع طهران وليست مع توابعها العراقيين. وأن هذه مقيمة في عالم مصالحها الخاصة.. ولا تتراجع إلاّ تحت الضغط! ولا تتنازل إلاّ أمام الأقوى! ولا ترتدع إلاّ عند تيقّنها بأن مصالحها تلك لا يمكن أن تُصان أو تُحفظ من خلال الاستمرار في «البناء» على خرائب وخراب مصالح غيرها!