IMLebanon

في «أسباب» جبران باسيل…

 

الظاهرة الباسيليّة، في الأحوال كافّة، تستدعي التحليل أكثر مما تستدعي السخرية التي يأتي بعضها من مناهضة فعليّة للعنصريّة كما يصدر بعضها عن مواقع طائفيّة أو حزبيّة أخرى. ووزير خارجيّة لبنان أخطر من أن يتجاهله التحليل، وأن يتولّى التشهير تنفيس الغضب عليه. الغضب هذا ينبغي عدم تنفيسه.

 

إلى ذلك، لم تعد السخرية الشخصيّة في زمن الصعود الكوني للشعبويّة تعني الشيء الكثير. ذاك أنّ القادة الشعبويين في مشارق الأرض ومغاربها لا يملكون من المواصفات الشخصيّة ما يفضل المواصفات التي يملكها السيّد باسيل. هذا يعني أنّ كثرة عرْض التفاهة تخفض الطلب عليها. إنّ المخازن باتت تمتلئ وتفيض بتلك السلعة الشائعة.

 

والحال أنّ الزعيم الشعبويّ، وطبعاً الزعيم الفاشيّ، يُغريان بالشتيمة لأسباب شتّى، خصوصاً منها ذاك الانتفاخ بالأنا الزائفة لديهما. لهذا تبدو مقاربتهما بالكاريكاتير عنصراً ملازماً لمعارضتهما. إلاّ أنّ المعارضة ليست الكاريكاتير ولا أنماط الهجاء الأخرى.

 

فأوّل الخطورة في باسيل أنّه ليس «شخصاً» هبط علينا من السماء، بل تعبير عن حالة عريضة نشأت على الأرض سنة بعد سنة، واستمدّت معناها مما يتحرّك فوق الأرض. ذاك أنّ المنطقة، وفي عدادها لبنان، تعيش طوراً جيولوجيّاً على صعيد سيولة السكّان والحدود. وتحوّلات كهذه، من عيار جيولوجيّ، هديّة ثمينة لهذا الصنف من القادة الذين يزدهرون بتسويق الخوف من الحاضر والقلق حيال المستقبل. إنّ المراحل الانتقاليّة خير حليف للشعبويّات على أنواعها. الآيديولوجيا، والحال هذه، تغدو الويل والثبور: إنّ الأرض تميد بنا لأنّها من صلصال. الحدود لا تحدّ والأبواب لا تحمي، فيما الحشود ورؤوس الكثرة تحطّم الديموغرافيا وتلغي ضماناتها.

 

إذاً: ابدأوا البكاء. الأخبار المرعبة لا بدّ أن تصل إليكم بعد قليل.

 

نعرف أنّ ما فعله بشّار الأسد بترحيله نصف مواطنيه من بيوتهم، ورُبعهم من بلدهم، وما فعله «داعش» حين دمج سوريّا والعراق، ليسا حدثاً بسيطاً أو عادياً يحصل كلّ يوم. فإذا عطفنا ذلك على المفاعيل النفسيّة والجمعيّة التي لازمت هذين التطوّرين الضخمين، وشيوع رواية «حزب الله» عن حشود التكفيريين التي تتهيّأ للإطباق علينا من وراء الحدود السورية المخلّعة، فهمْنا استثمار باسيل في الخوف والقلق، والأرباح السياسيّة الضخمة التي يدرّها هذا الاستثمار عليه.

 

نعرف أيضاً أنّ خرافيّة العنصريّة لا تنفي عثورها في الواقع الفعلي على موادّ تسندها، وهذا ما تعزّزه بتأويلها له على نحو تحريضيّ. وبالطبع فانفجار السكّان وتلاشي الحدود واقع كثيف الحضور وكثير الأبعاد، وهو بالتالي شديد القابليّة للتحريض.

 

نصف الحقيقة الآخر أنّ هذه الجيولوجيا المتفجّرة تهبط على سوسيولوجيا متفجّرة أصلاً. إنّها مشكلة أقلّيّات مزمنة ومحتقنة في المشرق العربيّ، لا سيّما في لبنان. لهذا تغدو مسألة العدد وانقلاب التوازنات العدديّة أهمّ ما تتداوله ثقافة الخوف وأكثر ما يروّجه الوعي العنصريّ.

 

لقد تولّى الأسد ترويع الأكثريّة وتولّى «داعش» ترويع الأقلّيّات. ومن موقعَي الخصومة، اشتغل التوحّشان لإنجاز هدف واحد: جعل الاجتماع السوريّ، والمشرقي تالياً، أقرب إلى كابوس. إنّ الآخر بات فعلاً جحيم الآخر.

 

أغلب الظنّ، فوق هذا، أنّ انتصار الثورة المضادّة في المنطقة، وفي سوريّا خصوصاً، سوف يزيد في تأزيم الأزمة ويقلّص فرص التعامل المفيد مع هذا الاجتماع المتصدّع بطرفيه الأكثري والأقلّيّ.

 

وظيفة الباسيليّة، هنا، تسميم ما لم يُسمم بعد من وعي أقلّيّ: إخراج مسألة الأقلّيّات من البرنامج الديمقراطي وإدراجها في برنامج شعبوي وعنصريّ. وهذا، بالمناسبة، ما يتعدّى الشخص نفسه إلى «جماهيريّة» ذات استعداد شعبي متنامٍ لأن تتلقّفه وتعثر في التاريخ على «براهينه» العديدة.

 

ظروف السنوات الماضية جاءت، هي الأخرى، مكافأة لانقلاب نفّذته العونيّة ونجحت فيه: لقد صارت، هي أيضاً، «حركة تحرّر وطنيّ» تضع المسيحيين في مواجهة كلّ خياراتهم التقليديّة حيال المنطقة وصراعاتها وحيال العالم وتحالفاته. أمّا الاحتجاب والتعثّر الغربيّان، كما شهدتهما السنوات الماضية، فخير مُشجّع على الانقلاب المذكور.

 

لكنّ ذلك لا يلغي أنّ الباسيليّة تبقى مداواة للواقع بالوهم، مداواة تعظّم أسباب المشكلة نفسها فيما هي تزعم اقتراح حلّ لها. فإذا كان من مصادر التأزّم التاريخي للمسيحيين شعور بفقدان التأثير على قرار الحرب والسلم، حلّت العونيّة والباسيليّة المشكلة بالالتحاق بـ«حزب الله»، أي الطرف الذي احتكر وحده هذا القرار، وكان إخلاله بالحدود علّة وجوده الأولى. وإذا كان توتير المناخ العامّ هو الطريق الذي اختير لـ«تحصيل حقوق المسيحيين»، بتنا أمام نزعة انتحاريّة لا تُسعفها معطيات الواقع في شيء.

 

وهذا، في آخر الأمر، خطير جدّاً يطال حياة البشر والأوطان، كما يطال اشتغال العقول والأفكار، فضلاً عن العواطف والأهواء… إنّ السخرية، والحال هذه، لا تسمن ولا تغني.