Site icon IMLebanon

في صدّام المستعاد!

 

يخطر على بالي كثيراً صدّام حسين في هذه الأيام..

أتذكّره في محطات ثلاث مصيرية. الأولى عندما داخ تماماً بانتهاء الحرب مع إيران لمصلحته، وراح يردح في كل لحظة بأنشودته الأثيرة «ما أحلى النصر بعون الله»! والثانية غداة احتلاله دولة الكويت! والثالثة حرب «أم الحواسم».

في الحالات الثلاث وقع في أسر دوغمائية مألوفة عنده وعند أمثاله. وصدّق (فعليّاً) أنّه «الزعيم الضرورة» وأن مآلات الحرب مع إيران إنما عبّرت عن ذلك الوعي الذي يختزنه في أعماقه وظواهره، عن تاريخية «دوره» في رسم مصير العراق. وفي كونه المثال الحداثي للسلَف البعيد.. من نبوخذ نصّر وبابل، إلى سعد بن أبي وقّاص والقادسية… وصولاً إلى تعبئة الحاضر بسرديات إفتراضية، عاش على وقعها العراقيون منذ قفزه إلى الصف القيادي الأول غداة «استقالة» «المهيب الركن» الرئيس أحمد حسن البكر في العام 1979!

وفي تلك السرديات الهلوسية، وَرَدَتْ أشياء من أدوار الآلهة! وأشياء أخرى من نوع أنّه لو وَجَد العرب أمثاله في زمن النكبة الفلسطينية، لما وقعت تلك النكبة!

لم يلحظ «الرفيق القائد» «المنصور بإذن الله» والمدكوك دكّاً بتضخيم الذات والدور، أنّ العراق الغني بأرضه ونفطه وزراعته ومياهه وناسه، كان يتدرّج نزولاً بمنهجية مرسومة على المسطرة.. وصولاً إلى وضعه الراهن، البائس والمحزن: تلهّى بصورته غداة انتهاء الحرب مع إيران وبفرضية «الانتصار» من دون أن يتوقف عند الخسائر، البشرية والمادية المهولة التي أصابت العراق والعراقيين، والتي تبيّن، أنّها بالمعنَيين التكتي والاستراتيجي ليست في حقيقتها العلمية إلّا كارثة، متعدّدة الأبعاد والأزمان. وإن القدرة على تخطّيها تحتاج إلى جيلَين أو ثلاثة.. وإن المقارنة مع إيران المنكسرة والمهزومة، تذهب لمصلحتها تبعاً لثلاثة اعتبارات حاسمة: عدد السكان، وسعة الجغرافيا، وحجم الثروات.. وكان منطقياً، بعد ذلك، أن تتمكن إيران من محو آثار الحرب في زمن قصير نسبياً فيما الوضع العراقي لا يحتاج إلى شرح كثير!

ثم ذهب إلى الكويت واستباحها غدراً لأهلها ولكل من كان معنياً آنذاك بتدارك التصعيد الذي سبق تلك الكارثة. لكن ما تلا ذلك هو بيت القصيد.. حيث أتذكّر ومثلي كثيرون، أنّ الآلة الإعلامية الغربية اشتغلت بدأب على «شخصية» صدّام أكثر مما كانت معنية بمسرح العمليات العسكرية! وراحت على مدى الشهور الستة الفاصلة بين الاحتلال والتحرير تضخّم الآلة العسكرية العراقية، تماماً، كما لو كانت أقوى من جيش النازي في زمانه! ومن الجيش الأميركي في زماننا.. فيما الواقع الذي تمخّضت عنه الحرب أكّد ما كان يعرفه مسبقاً كل صنّاع القرار في كل مكان، من أنّ الجيش العراقي كان حطاماً مقارنةً بالآلة العسكرية الغربية الحديثة!

كانت آلية التضخيم الإعلامي ذاك، مخصّصة لتغذية أوهام «القائد الضرورة» وزيادة النفخ في أناه، ودفعه، أو بالأحرى زيادة الدفع به، باتجاه السقوط في حساباته الكارثية!

والأفظع من ذلك، أنّ صدّام عاد في مرحلة لاحقة من عقد التسعينات، إلى طرح «فكرة» إعادة احتلال الكويت حسب شهادة الفريق الركن رعد الحمداني الذي كان أحد كبار ضباط الجيش العراقي وأكثرهم جرأة في مجادلة «الرفيق القائد».. وهو يقول في ذلك، إنّه شرح وجهة نظره في أحوال الجيش والعراقيين، وفي المقارنة بين «قدراتنا وقدرات الأميركيين» واصطدم في لحظة علمية تتعلق بعرض حالة سلاح الجوّ العراقي وقدراته إزاء «نظيره» الغربي والأميركي، بأنّ صدّام استحضر الألطاف الربّانية والإلهية، قبل أن «يقتنع» ويتراجع عن طرحه!

.. في الحرب الأخيرة عام 2003، كان يعرف «كل شيء». ولذا سمّاها بنفسه «أم الحواسم»! مع ذلك لم يستطع تغيير جلده! ولا المسّ (أو السماح بالمسّ) بالصورة النمطية التي بُنيت عنه منذ العام 1979: «المنصور» الذي لم يأتِ التاريخ العراقي بمثله منذ القادسية!.. وهكذا توالت وقائع تلك الحرب مع أهازيج بدائية تبدأ من «العلوج» ولا تنتهي عند «تحطيم الغزاة» عند «أسوار» بغداد! وتمريغ أنوفهم بالتراب!

.. في نواحينا هذه الأيام، شيء من التكرار العبثي لتلك المناحة في جملتها. وخصوصاً (وخصوصاً جداً) لجهة استمراء سردية «الانتصارات الإلهية» والبناء عليها! والانطلاق منها لتركيب يقينيّات هلوسية صافية! من دون الانتباه إلى وضعية الاندثار التي ترتع في ظلّها عوالم المشرق العربي تحديداً.. والتي لا ينقصها كي تكتمل سوى تتويج المسيرة المظفّرة في سوريا، بمحو إسرائيل من الوجود! والتكرّم قبل ذلك، بتقديم النصائح لسكّانها بالهرب منها قبل فوات الأوان!!