كثر من أهل الهوى الإيراني السياسي و«الفكري» الذين كانوا يراهنون على تعثّر المسار الذي أطلقه الأمير محمد بن سلمان منذ تولّيه ولاية عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، وهؤلاء ضربوا أخماساً بأسداس ووضعوا تمنياتهم محل وعيهم الشقي وافترضوا بأن الجمود أقوى وأمتن من أن تهزّ أركانه رياح التحديث ومواكبة العصر والزمان.
والواقع أن التحدّي لم يكن هيّناً ولا بسيطاً. ولأنه كان كذلك، جاءت النتيجة كبيرة ومميّزة ودلالاتها بارزة.. والأمر في إحدى ظواهره هو تعديل قوانين تسمح للمرأة السعودية بقيادة السيارة والتماثل في ذلك مع كل خلق الله أينما كانوا. لكنه في عمقه هو تعديل في أعراف بدت أقوى من النصّ الدستوري أو القانوني. ومستنداتها مركّبة وتشتمل على أبعاد اجتماعية بقدر اشتمالها أبعاداً دينية. والأمران في واقع حال المملكة متداخلان في الكثير الكثير من النواحي والشؤون الكبيرة والصغيرة.
بهذا المعنى خرق الأمير الشاب جملة سدود دفعة واحدة. واعتمد ويعتمد في ذلك الاختراق على المخزون المقدّس ذاته لكن برحابته واعتداله وسعته التي لا تحدّها حدود.. ثم اعتمد على قوة دفع آتية من تراكم أداء الحكم منذ أيام المؤسِّس الراحل الملك عبدالعزيز رحمه الله. وهذا التراكم عماده ثقة السعودي بقيادته. وبمناقبية صاحب الشأن ووطنيته الخالصة والتامّة. ووضعه أهله وناسه وربعه في أساس الأهداف الرعائية والتنموية التي عزّزتها وسمحت بنموها الثروة النفطية وعائداتها. وهذا في كل حال، أنتج تلك التوليفة التي جعلت وتجعل من المملكة عصيّة على الكيد والفتن والتخريب والإرهاب..
في التصوّر العام الذي جاء القرار الأخير في سياقه، يُدخِل ولي العهد السعودي، بلاده في طور يختلف عمّا سبق. ويتصرّف في هذا بشجاعة لا شك فيها. لكنه يتصرّف قبل ذلك وفق قياسات علمية دقيقة واستناداً إلى معطيات مدروسة على البارد إذا صحّ التعبير.. أي أنه يتعامل مع حقائق وأرقام وليس مع آراء ووجهات نظر. أكان ذلك يتعلق بالاقتصاد الوطني العام، والعمل على تقليص مركزية اعتماده على الناتج النفطي، وتوزيع وتوسيع المصادر الأخرى بما فيها الخدمات المتّصلة بالحج والعمرة.. أو تعلّق ذلك بصناعة الترفيه وفتح الأبواب المغلقة في السينما والمسرح والاختلاط وصولاً إلى كسر “التابو” الخاص بقيادة المرأة للسيارة.. مروراً بطبيعة الحال بفتح معركة كبيرة ضدّ الإرهاب واعتماد آليات متمّمة للتدابير الأمنية وحملات الاستيعاب والتثقيف، وخصوصاً في الشأن الديني التربوي والتعليمي.
يعرف الأمير محمد بن سلمان تماماً ماذا يفعل. ويعرف أين يضع قدميه. ولذلك نجحت خطواته التي خطاها على مدى المرحلة الماضية برغم دقّة بعضها وحساسيته. وبرغم كثرة التحدّيات والمخاطر المتأتية من الغلواء الإيراني واتساع رقعتها ووصولها في اليمن إلى خطوط التماس مع حدود المملكة.. أي أنه يُعيد بشكل أو بآخر تشكيل الوعي العام، أو بالأحرى يعمل على إعادة صياغة ذلك الوعي انطلاقاً من عدّة الشغل المحلية القائمة وليس من خارجها. وانطلاقاً من الموروث الديني والاجتماعي وليس من خارجه. وانطلاقاً من ثوابت وقيم راسخة وليس من خارجها. وأهم «أسلحته» إذا جاز القول، هو تأكّده من أن غالبية عظمى من السعوديين تواكبه على الموجة الحداثية أو التحديثية ذاتها. وتتطلّع إلى الدنيا من أبواب مفتوحة وليست مغلقة ولا تحجبها تأويلات أو فتاوى أو إرادات مأزومة، بل العكس تماماً..
أي أنه يخوض حرباً واحدة بمعارك كثيرة، داخلية وخارجية، اقتصادية وتنموية واجتماعية وفكرية وفقهية وعسكرية (اليمن) وسياسية متعدّدة الأبعاد والعناوين. ويعرف بالتأكيد أن الخيار الوحيد أمامه هو الفوز بتلك الحرب لتثبيت حقيقة أن المملكة هي ركن الإسلام والمسلمين وأساس العرب، وضمانة أمنهم القومي واستقرارهم.. ودولة مكتملة المواصفات والشروط، وأوسع وأكبر من النمط الريعي الذي كان مُعتمداً. واقتصادها ومؤسساتها أمتن من أن تهزّهما أسعار الطاقة صعوداً أو هبوطاً.. أو أن تؤثّر في مسارهما العام تأويلات مجتزأة للنص الديني.
تمكين المرأة السعودية من قيادة السيارة، هو مسار واحد من جملة مسارات تضع المملكة المحروسة بإذن الله والمرعية بألطافه ورضاه ورحمته، على الطريق الصحيح والسليم إلى غدٍ أفضل، أكثر استقراراً ورخاءً وإشراقاً ونمواً، وبما يليق بها وبدورها المحوري والقطبي إسلامياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.