ليس من عاقل معني بالشأن العام إلاّ ويرى، من عدسات المنطق وواقع الحال وأحوال الدنيا السياسية الراهنة، أن روسيا في سوريا هي صاحبة الدور الأول والأكثر تأثيراً في معظم شؤونها.. و«معظم» هذه تشتمل في حقيقة الأمر على جلّ مقوّمات النكبة وأشيائها. ميدانياً وسياسياً وأمنياً وعسكرياً وفي الجغرافيا والديموغرافيا وخطوط الفصل ومراكز النفوذ وأحوال الباقين ومصائر النازحين.
وإن ذلك في بداية المطاف وآخره يعني لبنان مثلما يعني غيره من دول الطوق السوري التي تأثرت بمسار النكبة وتداعياتها، وتلقّفت تردّداتها بشرياً ومادياً وأمنياً، وبعضها عسكرياً (مثل تركيا) ودفعت في الخلاصة أثماناً لأخطاء وخطايا لم تتسبّب هي بها!
وهذه الحسبة الظالمة كانت جزءاً من عدّة المواجهة التي باشرها بشار الأسد وأعلنها منذ الأيام الأولى للثورة التامّة والشاملة عليه.. بحيث أنّه لم يكتفِ بربط مصير نظامه بمصير سوريا دولة ومؤسسات وعمراناً وبشراً فقط، بل «أوضح» أمرين إثنين أساسيَّين. الأول هو تحميل الجوار العربي والتركي أعباء انكسار سيطرته على الداخل من خلال الدفع بأهل هذا الداخل إلى الخارج. والثاني الاشتغال الدؤوب على تحويل النزاع الأهلي أساساً إلى مشكلة، إقليمية ودولية كبرى.
وفي هذا، كان البعد الفتنوي المذهبي أحد أهدافه الأثيرة من خلال مَذْهَبَة المواجهة وتحويلها بمساعدة الإيرانيين إلى فتنة إسلامية تمتد من تخوم باكستان إلى لبنان، ثمّ إنعاش الحالة الإرهابية، وبزخم شيطاني مدروس وممنهج لتظهير ما يحصل في سوريا على أنّه جزء من الحرب العالمية على الجماعات الإرهابية والتكفيرية، قبل أن يكون أي شيء آخر. أي قبل أن يكون نهوضاً وطنياً عاماً في وجه ديكتاتورية فئوية شاملة متمسّكة إلى النهاية بسلطاتها ومغانمها ومستعدّة لتفعل أي شيء وكل شيء لدوام ذلك التمسّك!
اشتغلت التركيبة الأسدية من دون ضوابط أو سقوف أيّاً يكن نوعها، على أقلمة وتدويل حربها المصيرية الداخلية هذه.. وحاولت توريط القريب والبعيد.. لكنها ركّزت على لبنان أكثر من غيره، باعتباره خاصرة رخوة ومنفذاً ومتنفّساً وقابلاً للاشتعال الذي يمكن له أن يخفّف من حدّة النيران الداخلية (السورية) ويعيد خلط الأمور والمواقف والمواجهات والصدامات.. ولو أمكنها لأشعلته حرفياً. وقد حاولت ذلك في كل حال من خلال ميشال سماحة وأدواتها المعروفة في بعض الشمال.
ثم لو أمكنها لدفعت باتجاه لبنان أضعاف عدد الذين نزحوا ولجأوا إليه.. ووضعت ذلك في سلّة عبثها العدمي المألوف كما في باب الاستثمار والابتزاز جنباً إلى جنب مع أوراق الابتزاز الأخرى التي من بينها راهناً قصّة عبور البضائع اللبنانية إلى الخليج العربي.
.. ولو عاد الأمر لتلك التركيبة لامتنعت عن قبول عودة نازح واحد إلى سوريا، وخصوصاً من لبنان! والمفارقة هي أن دعاة «التنسيق» معها والانفتاح عليها هم أول وأكثر العارفين بهذه المناحة! وأكثر الناكرين لها! وأكثر المتاجرين بهذه المأساة البشرية من أجل محاولة كسر العزلة المضروبة حول الأسد عربياً ودولياً، ولو عنى ذلك وهو يعني حُكماً، تدفيع لبنان أثماناً لا يطيقها جرّاء شططه خارج النصّ الشرعي، العربي والدولي!
ولذلك، فإنّ توجّه الرئيس سعد الحريري إلى الباب الروسي هو المدخل المنطقي و(الأخلاقي) والعملي والسياسي والشرعي والوطني، من أجل مقاربة قضية النزوح السوري بما يخدم لبنان والنازحين، وبما يوفّر على لبنان الكثير من العلك والمناورات والمتاعب والوقت.. ويسحب من أيدي العابثين ورقة توتير داخلي إضافي لا داعي له أصلاً!
على أن أحد الأبواق الأسدية المُستعادة في بيروت، يصرّ على استعراض ضحالته الذهنية أمام عموم اللبنانيين. وتذكير من نسي (أو طنّش!) منهم بخصاله، وبأنه كان ولا يزال وسيبقى أحد عناوين التركيبة التي خرّبت لبنان أو ما اصطلح منه قبل العام 2005. ثم دمّرت سوريا وأحالتها شيئاً من التاريخ!.. هذا الاستشاري العبقري لا ينتبه، أو لا يريد أن ينتبه إلى أن الحكي في قضية النازحين يتم مع الروس الذين لهم الفضل الأول في بقاء «معلّمه» حيث هو في دمشق.. أم تراه يرى نفسه أيضاً «أكبر» من هذه الحقيقة؟!