Site icon IMLebanon

بالصفّ

 

كان القائد الكشفي الفظ يعاملنا، نحن الجراميز الصغار، كأنه إيريش فون مانشتاين ونحن نواة جيش الرايخ السادس، ولحظة كان يصرخ بنا “تراصَف” كنت أمدّ ذراعي بطريقة سريعة لتلامس أصابعي كتف الواقف كالطود أمامي بدلاً من مدّ لساني للـ”شيف”، ولا أنزل يمناي التي ما حلفت بها يوماً إلا متى أمر “فون مانشتاين” بذلك.

 

وأيام المدرسة كنت أقف في الصف صباحاً كجندي عائد لتوه من حرب العلمين.

 

وفي بدايات الحرب اللبنانية، وجدتني في صف المدافعين عن السيادة الوطنية المنتهكة، وواقفاً بالصف للحصول على ربطة خبز أو لملء “غالون” مي من قسطل مفخوت في الأشرفية.

 

في العهد القوي 1988-1990 (Part 1) باتت صفوف السيارات أمام محطات الوقود أمراً مألوفاً ومرتبطاً بالعنفوان الوطني وبمستلزمات تكسير الرؤوس عدا صفوف الهاربين عبر مرفأ الأهوال.

 

إلى فرنسا، نُفي الجنرال، وإلى مدينة النور سافرت لنسيان أفعاله. استضافني زميل فاعل خير بعدما أبلغته بحالتي ونحتُ من دون حمامة، في اليوم الأول لزيارتي الرسمية احتجت لشراء معجون أسنان، دلني زميلي إلى أقرب صيدلية دخلت ووجدت أمامي “فرمشانية” مشغولة بسيدة مسنة في حديث بدا لي من دون أفق. و”فرمشاني” يتأمل الوجود والعدم. طلبت منه، معجون أسنان، فنهرني وكأنه أصيب بصعقة كهربائية: ألا ترى الصف أمامك؟

 

“أي صف؟” قلت، فأشار إلي بالوقوف خلف تيتا فرانسواز. شتمته في سري وانتظرت في الصف الثنائي انتهاء المحادثات الثنائية للحصول على مبتغاي. وفي زيارة أخرى لباريس، سألت مضيفي المعتمد أن يقودني إلى معرض لبيكاسو. فعل على مضض. كانت الساعة حوالى الرابعة، وفي الخامسة يقفل المعرض. كانت السماء “تبخ” وتتهيأ للزخ. وبدا لي أن صف الراغبين بالدخول إلى المعرض أطول من مسار رالي باريس ـ داكار. ومن حظي أنني أحمل، كما زميلي المتفرنس، بطاقة صحافية، فأخذنا خطاً عسكرياً ودخلنا دخول الفاتحين شاهرين بطاقتين إحداهما ممهورة بتوقيع النقيب ملحم كرم.

 

لا مشكلة أن أقف في الصف مرة أو مرّتين في اليوم من أجل مستلزمات حياتية، لكن أن تقف في اليوم نفسه أمام فرن الكبوشية وأمام صيدلية البلسم الشافي وأمام معرض الخضار والفواكه في أدما، وأمام ATM مصرفك لتسحب جزءاً من راتبك، وفي الصف أمام دكانة أم جورج لشراء “سطيلة لبن” وأن تقف في صف ممل لإجراء فحص الـ PCR، وفي نهاية النهار تصادف صف سيارات طويل رأسه في جل الديب وذنبه في ذوق مكايل وتستنتج أن الدرك “ناصبين فخ”.

 

لا يهوّن مذلة الصفوف سوى متابعة مسلسل العهد القوي PART 2.