Site icon IMLebanon

في «الوسيط» الروسي

منطقيّة ومعقولة مبرّرات فصائل المعارضة السورية المسلّحة لعدم المشاركة في الجولة الجديدة من محادثات الآستانة، وأساسها وأوّلها تحوّل قرار وقف النار الى أداء منفرد من جهتها فيما تتابع بقايا سلطة الرئيس السابق بشار الأسد والميليشيات الإيرانية الداعمة له، سيرها باتجاه معاكس.

بل إنه تحت شعار تلك الهدنة المفترضة الهادفة في المحصّلة (الأخيرة!) الى مواكبة المفاوضات السياسية في جنيف، تعمل الماكينة الحربية الإيرانية-الأسديّة بوتيرة أكثف من المعتاد وإن كانت بأقل سرعة من المعتاد وبمشاركة الطيران الحربي الروسي في أكثر من جبهة، ما ولّد «انطباعاً» بأنّ موسكو كبحت المسار العريض لذلك الثنائي بعد معركة حلب، لكنها تعوّض عليه بالمفرّق من غوطة دمشق والقلمون الى حمص وريفَي إدلب وحلب!

على أن الأخطر من المعطيات الميدانية الجارية هو أنّ موسكو تحاول جمع نقيضَين مستحيلَين في أدائها: الطرف المركون (والشرس) في خانة الإيرانيين والأسديين من جهة، والوسيط المقبول من جهة ثانية! أي كما الحال في الغنائية العتابية للمتنبي إزاء سيف الدولة الحمداني: «خصم وحكم» في الوقت ذاته!

والغريب أنّ موسكو تراكم خبرات كثيرة في سوريا وعلى حساب أهلها لكن من دون مردود إيجابي طابش وحقيقي: «تجرّب» أسلحتها، و«تدرّب» قواتها الجوية في الميدان وعلى أهداف حيّة مثلما راحت تتشاوف بعنجهيّة إجراميّة قميئة ومن دون ذرّة أخلاق! وتعتمد الوساطة بين المعارضة وبقايا السلطة الأسدية كتدريب أوّلي على وساطة أكبر بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران من جهة ثانية!

وتلك حالة مستجدّة على المخيال الروسي المرصوص تاريخياً منذ «ثورة أكتوبر» (المجيدة!) في دائرة متطرّفة تشبه في حدّتها، حدّة الصقيع السيبيري.. ومبنيّة تبعاً لاعتبارات كثيرة أولها أنّ روسيا دولة عظمى وقطبيّة يدور في فلكها من هو معها ويبتعد عنه من هو ضدّها! ولا مساحة رمادية تجسر الاصطفافين! بل إن «ثورة أكتوبر» تلك كانت في زمانها أخطر ترجمة منذ قرون لذلك المنحى الجذري في القراءة والاستنتاج والأداء المفضي في خلاصته الى كوارث لا تني تتناسل حتى اليوم!

ولذلك فإن دور الوساطة هذا في سوريا وانطلاقاً منها، يبدو فضفاضاً على الجسم الروسي! وسابقاً لأوانه! عدا كونه يفتقد في منطلقاته أسباب نجاحه: طالما أنّ روسيا تضع مصير الأسد جانباً فهي لن تجد سورياً واحداً في صفوف المعارضة (الأصلية وليست المفبركة في مصانعها!) يرضى بدورها الوسطي «البناء»! وطالما أنّها ترفض الإقرار بأنّ «الإرهاب» صفة لا تليق بعموم شعب الثورة السورية بقدر ما تليق بجزّاريه وقاتليه ومسبّبي نكبته، فإنّها لن تصل الى أيّ مكان حاسم، لا في الآستانة ولا في جنيف، ولا في «الموضوع» الإيراني-الأميركي، أو الإيراني-الإسرائيلي!

لا أرض محروقة في عالم الديبلوماسية بل العكس. وتلك واحدة من مقوّمات محنة العقل الروسي الذي لم يخرج بعد من نمطيّته المتطرّفة: يحاول حرق المراحل مثلما يحرق البيوت والمدن والناس.ويحاول تجاهل حقائق الجغرافيا والديموغرافيا مثلما حاولت «ثورته» في العام 1917 تجاهل استحالة «الماديّة التاريخيّة» في مجتمع ريفي زراعي بدائي! يحاول المشي مثل الغزال وهو دبّ! يحاول في الآستانة إنضاج ما يريده في جنيف! ويحاول في جنيف تحقيق ما عجزت عنه ست سنوات من الجحيم في حق شعب سوريا!