لم ينسَ النائب الكتائبي إيلي ماروني حرب زحلة عام 1981 وما تعرّض له أهلها من قصف سوريّ كاد أن يبلغ حدّ الإبادة، ولم تَغب عن وجدانه جلسات التعذيب التي أُخضِع لها في عنجر خلال حقبة الاحتلال السوري للبنان، ولم ينسَ حتماً أنّ قتلة شقيقه نصري ماروني لا يزالون فارّين من وجه العدالة في حماية النظام السوري. ليست القضيّة شخصيّة بالنسبة إلى ماروني لكنّه حمل كل تلك المعاناة التي تعرّض لها المسيحيون، وهو كان واحداً منهم، إلى طاولة الحوار مع «حزب الله».
ربما يعتبر البعض أنّ هذه المعاناة باتت من الماضي، لكنّ ماروني، ممثّل «الكتائب» في هذا الحوار، أرادَ من خلالها أن يوضِح لممثلي «حزب الله» لماذا يأخذ الكتائبيون مواقف مناوئة للنظام السوري، ولماذا لا يُؤيّدون قتال «الحزب» في سوريا، وبالتالي الدفاع عن النظام الذي اضطهد اللبنانيّين عموماً والمسيحيّين خصوصاً طوال 30 عاماً.
في مجلس النواب
ثمّة لقاءات عُقدت بين ماروني كرئيس لكتلة نواب «الكتائب» والنائب محمد رعد كرئيس كتلة «الوفاء للمقاومة»، إضافة إلى لقاءات أخرى مع النائب علي فيّاض. من جهته، لم يتوجّه ماروني إلى الضاحية الجنوبية ولم يقصد ممثلو «حزب الله» في الحوار البيت المركزي للكتائب في الصيفي، بل اتُّفق على عقد الحوارات في مجلس النواب، وتحديداً في مكاتب النواب المتحاورين.
والطريف أنّ ماروني لم يزر الضاحية يوماً ولا يعرف منها إلّا طريق مطار رفيق الحريري الدولي، إلّا أنّه وبعد جلسات الحوار الثنائية المتتالية يتمنّى «أن يأتي يوم أزور فيه هذه المنطقة العزيزة من لبنان»، ويَلفت مداعباً: «ربما تأتي هذه الزيارة تتويجاً للحوار القائم بيننا وبين الحزب».
مشروعان متناقضان
بداية الحوار كانت في شهر أيار 2014، والحزبان المتناقضان في التوجهات السياسية والاستراتيجية حتى أدنى التفاصيل، يعلمان أنّهما يتحاوران وبينهما مسافات متباعدة وتاريخ يكاد يخلو من النقاط المشتركة إلّا في بَذل الشهداء من أجل بقاء لبنان.
يَعي ماروني شخصياً هذا الأمر، إذ يعتبر «أنّ مشروع «الكتائب» هو الحياد من أجل إنقاذ لبنان من الأزمات وبناء الدولة اللبنانية، فيما «حزب الله» هو تنظيم مسلّح. صحيح أنه يتعاطى السياسة إلّا أنه يحمل السلاح، وبالتالي يرفض الحياد ويعتبر نفسه معنياً بكلّ أزمات المنطقة».
تلك هي المسائل التي تُفرّق بين الحزبين، أمّا ما يجمع فهو وفق ماروني «نحن وهم من أبناء هذه الأرض الطيّبة وكلانا بَذل الشهداء، حتى أنّ «الكتائب» هو أكثر من أعطى شهداء في تاريخ لبنان».
«الكتائب»: لا لبنان بلا الشيعة
يشعر كثيرون أنّ الحوار بين «الكتائب» و«حزب الله» نوع من الترف، لكنّ «الكتائب» تجده مفيداً، وخصوصاً أنّ القيادة وضعت نُصب عينيها ثوابت اعترفت فيها بأنّ «حزب الله» مكوّن رئيس في التركيبة اللبنانية، وهي كانت أوّل مَن أطلقت معادلة «لا لبنان من دون الشيعة ولا شيعة من دون حزب الله»، لأنه يمثّل شريحة كبيرة من الشيعة.
وهنا يوضح ماروني: «لذلك نُدرك أنّ الحوار مع «حزب الله» ليس ترفاً إنّما محطة مهمة لإحياء لغة التواصل التي يجب أن تكون بين جميع اللبنانيين». ويفتخر بأنّ نظريّة «الكتائب» التي كانت سبّاقة في الانفتاح على الحوارات، قد انتصرت، ملمّحاً، من دون تسميتها، إلى «القوات اللبنانية» التي كانت ترفض الجلوس على طاولة الحوار وارتضَت الآن التحاور مع «التيار الوطني الحر»، إضافة إلى حوار «المستقبل» و»حزب الله».
إنجاز وحيد: التلاقي والتعارف
لكنّ ماروني الذي يصِف حوار «الكتائب» مع «حزب الله» بالهادئ والبعيد من الوعود والأحلام والأمنيات، يعترف بأنّه لم يُحقّق حتى الآن سوى إنجاز التلاقي والتعارف فحسب، وليس من المنطقي انتظار المعجزات، حتى انه يؤكّد: «ليس طموحنا أن نصِل إلى مراحل بعيدة إنما نكتفي بالأمنيات من خلال البحث في بعض المسائل التي قد تشكّل قواسم مشتركة بيننا، لأنّنا اتفقنا منذ البداية على ألّا نتطرّق إلى الموضوعات الخلافيّة التي تحتاج إلى طاولة حوار تضمّ كلّ الأحزاب والأقطاب اللبنانية، علماً أنّ حتّى جدول أعمال حوار «حزب الله» و«المستقبل» استثنى البحث في السلاح والاستراتيجيّة الدفاعية ومشاركة «الحزب» في الحرب السوريّة، لأنّ هذه الموضوعات تُعتبر أكبر حجماً من الحوارات الثنائية وتتطلب مشاركة كلّ الأفرقاء».
الطبق الرئاسي بلا أسماء
إذاً، ماذا يبحثون في هذا الحوار؟ لا شكّ في أنّ الهدف الأول هو التخفيف من حدّة بعض المواقف، والتعارف كفريقين لبنانيين، تمهيداً للوصول إلى قواسم مشتركة. أمّا الهدف الثاني فهو الطبق الرئاسي الذي يبدو حاضراً بقوّة في الحوار.
فرئيس حزب «الكتائب» أمين الجميّل يُدرك أنّ مصلحته كقطب من الأقطاب الموارنة الأربعة المطروحة لرئاسة الجمهوريّة، الانفتاح على الحزب الأكثر فعالية وقوّة بين قوى «8 آذار»، فحوّلَ ماروني، أحد صقور حزبه، طائراً مسالماً وأوفَده حاملاً غصن الزيتون إلى «حزب الله».
وهكذا، دخل مناخ الحوارات الثنائية القائمة من الباب العريض، وإن لم يؤدِّ الحوار مع «الحزب» إلى نتائج ايجابية، فلن ينعكس ضرراً على «الكتائب» بتاتاً.
لكنّ ماروني لا يوافق على هذه النظرية، ويؤكّد أنّ ما طُرِحَ مع «حزب الله» في شأن انتخاب رئيس للجمهورية كان بعيداً من الشخصنة، نافياً أن يكون تطرّق إلى انتخاب الجميّل رئيساً للجمهوريّة، «كلّ ما في الأمر أننا نبحث في الفراغ وإمكان التوافق على مبدأ الانتخابات والكفّ عن التعطيل، على رغم أننا نتمنى أن يكون الجميّل رئيساً، لكن حتى الساعة لا يزال «حزب الله» متمسكاً بترشيح النائب ميشال عون، والأخير متمسّك بترشيحه ويرفض أي مرشّح توافقي أو وفاقي، من هنا لا تزال العقدة مستمرة».
على أيّ حال، لم يُبدِ ممثلو «حزب الله» في الحوار مع ماروني أيّ انطباع حيال ترشيح الرئيس الجميّل، ويشدّد ماروني على «أنّ رئيس حزب «الكتائب» لم يعلن ترشيحه وهو يرفض أن يكون هذا الأمر موضوع بحث راهناً لأنه يحرص على إنقاذ الجمهورية وملء الفراغ.
ويجب ألّا ننسى أننا كقوى «14 آذار» كنّا داعمين الدكتور سمير جعجع، لكن هذا لا يمنع أن يكون الجميّل أحد أبرز المرشحين نظراً إلى تاريخه وخبرته وحكمته، إلّا أنّه ترك لنفسه إعلان ذلك عندما يرى الظرف ملائماً أو إذا وجد تصميماً على تأمين النصاب، لذلك لم نسأل «حزب الله» عن رأيه بترشّحه».
الحوار مستمر
لكن في يوم 28 كانون الثاني الفائت، نام ماروني على «حوار» واستفاق على أخبار عن هجوم نفّذه «حزب الله» ضدّ موكب اسرائيلي عسكري، وحبس أنفاسه مثل جميع اللبنانيين خوفاً من ردّ اسرائيلي يطاول كل المرافق والقطاعات الحيويّة اللبنانيّة، إلّا أنّ الردّ كان محدوداً وانقضَت المسألة على خير.
مع ذلك، لم يتعطّل الحوار بين الحزبَين، ويعزو ماروني السبب إلى «أنّ المطالبة بوضع قرار الحرب والسلم في يد الدولة اللبنانية ليس مطلباً كتائبياً فحسب، بل هو مطلب لبناني شامل. ولا بد من العودة إلى أرشيف جلسات هيئة الحوار التي كانت تعقد في قصر بعبدا، ونحن نُدرك استحالة التوصّل إلى حلّ لهذا الموضوع في الوقت الحاضر، لذلك لم يتأثر حوارنا مع الحزب».
إعلان نيّات؟
لعلّ أقصى ما يمكن أن يصِل إليه الحوار القائم بين الفريقين هو «إعلان نيّات»، على أن يكون البند الأول فيه الرغبة في العودة إلى طاولة الحوار التي تشمل كل الأفرقاء اللبنانيين. ويقول ماروني: «الحوارات الجانبيّة مهمة، إلّا أنّ الحوار اللبناني الشامل هو الحلّ».
من يعود قليلاً إلى الوراء، ويبادر إلى المقارنة بين الأمس واليوم في التعاطي بين «الكتائب» و«حزب الله»، لا بد أن يلحظ بعض ثمار الحوار، وأهمّها التخلّي عن لغة التخوين: فـ»حزب الله» لم يعد يعتبر «الكتائبيين» عملاء لإسرائيل من جهة، و«الكتائب» باتت تمتنع عن اتهام «الحزب» بالتبعيّة للجمهورية الاسلاميّة الإيرانية من جهة أخرى، ولو اعتبر ماروني أنّ هذا الانجاز لا يعود إلى الحوار القائم، «لأنّ «حزب الله» أوقفَ تلك اللغة الخشبية منذ العام 2006، وأنا أسمح لنفسي بالقول إنّ «الكتائب» و«القوات اللبنانية» هما عملاء للبنان واللبنانيين فقط».