لا تصيب التسوية أهلها بالضيم، وإلا ما كانت لتستحقّ اسمها.. ولا تدلّ في مبتدئها وخبرها سوى على الأخذ بأحكام هذه الدنيا وترك الأوهام في مكانها، عدّةً للشعر والنثر، وصنواً للأحلام والتمنيات المستحيلات.
والتسوية رديفة لبنان وسرّ دوامه. وما انكسرت مرّة إلا لأن فيه من ركِبَ رأسه ونفاها. وظنّ غاشياً أنّ توليفة الفرض والإكراه بديل ممكن. فدفع الثمن واجترّ الندم.. ثم وضع اللوم، في وجع الرأس الذي أصابه، على الحائط الذي نطحه مرّة محاولاً تكسيره!
ويمكن الركون بهدوء واطمئنان وحبور (أكيد!) الى أنّ معادلة الوسط الذهبي التي حكى عنها أرسطو لا تزال صالحة للاستخدام في مواجهة «التيسنة» (من تيس!) والانتشاء بها! وإن ذلك المنطق البسيط والخالد، يعني بأنّ التطرف رذيلة مكتملة المواصفات. وأنّ الحياة في ذاتها، هي تسوية بين تطرّفَين هما الموت من جهة والخلود من جهة ثانية، ما يُحيل الغلو في أي شأن، الى عبث لا تطيقه سوية التنوع البشري، ولا تعدّد الأهواء والهويات، ولا طبائع الخلق الذي فُطِرَ على الاجتماع، وما استمر إلاّ لأنّه أنتج توليفة تدمج الذات بالجماعة.
«وفرادة» لبنان، على ما تقول السيرة الفيروزية (الخلّابة في كل حال!) هي أنّ التسوية فيه، يومية ومستدامة وواجبة في كل حين ونطاق ومضمار.. وامتحان على مدار الساعة، يستدعي ويستوجب عناية في الإجابة عن أسئلته! وإعمالاً للعقل! ونفياً للغريزة! وابتعاداً عن شطط الهوى وإغراء الغوايات! وإجازة (مفتوحة) من تهويمات الصخور والصوان وطحن البحص وشرب البحر وتفتيت الجبال! وتواضعاً في الأحكام! وأخذاً بحقائق الأوزان والقدرات والإمكانات! واعتياداً على وعورة الطريق ووحشة البراري! واستئناساً (في المقابل) بفضيلة الشجاعة باعتبارها وسطاً ذهبياً ينقض رذيلتَي التهوّر والجبن! وبفضيلة الحكمة باعتبارها وسطاً ذهبياً ينقض رذيلتي الغباء والتذاكي!
و«فرادة» لبنان هي أنّ ميزانه لا يحتمل ذرّة خلل.. تميل إحدى دفّتيه فينكسر ويعطب. يُصحّح الخلل ثم ينكسر مجدداً ثم يُعاد تدوير الحكاية مرة تلوَ مرّة. وفي كل مرّة تكون الأثمان أعماراً وإعماراً راحت هباء، وما أعادها كثر الندم ولا كثرة الندب والمناحات والحداء!
«فرادة» لبنان، أن الرؤوس الحامية والناشفة فيه، لا تتناسب مع مناخه الجبلي المعتدل ولا الساحلي الرطب!.. أم ماذا؟!