ما حصل في شبعا ليس انقلاباً على المعادلة القائمة ولا كسراً لقواعد الاشتباك.. على عكس الإيحاء المضمر في بيان «حزب الله» عن العملية والذي حمل عنوان «البيان الرقم واحد» المستعار من الانقلابات العسكرية! بل الأرجح هو ان «المقاومة» تحركت وفق حسابات لا تُحرج أحداً، ولا تُخرج الوضع عن حدود السيطرة المعقولة، وبالتأكيد، لا تدل على أي انقلاب ومنقلبين!
وما سرى مباشرة غداة ضربة القنيطرة قبل عشرة أيام، يظلّ سارياً غداة ضربة مزارع شبعا بالأمس: الرد كان حتمياً من «حزب الله» لكن تحت سقف عدم الذهاب بالتصعيد الى نقطة الحرب الشاملة.. لا الحزب في وارد الخروج الى سياق لا تريده إيران في المراحل الأخيرة والحاسمة من مفاوضاتها النووية، ولا حكومة نتنياهو قادرة أو في وارد الخروج الى سياق لا تريده واشنطن وللاعتبارات التفاوضية ذاتها! وما نراه وسنراه هو الوجه الآخر للصورة: حكومة المجانين في تل أبيب مضطرة للرد على عملية شبعا كي لا تظهر أنها ركيكة أو ضعيفة أو مترددة أمام جمهورها الانتخابي، لكن ردّها بدوره سيبقى دون سقف الحرب الشاملة.
.. لكن خارج السياسة وضروبها ومنطقها وحساباتها، هناك شيء آخر يتصل بالخطاب الشعبوي والتوجيهي المعتمد من قبل «حزب الله» عن «المقاومة»، والذي يكاد يطغى وصولاً الى انتقاله من دائرة الشكل الى مصاف تقرير المصير: هذه «مقاومة» صارت أسيرة صورتها أو خطابها وليس العكس. أي انها «مضطرة» دائماً الى تأكيد بأسها وقوتها وجبروتها واستعداداتها وجهوزيتها ومنعتها، حتى لو أخذها ذلك الى حدود المغامرة.. وهي «والانتصارات الالهية» صنوان. ولا يجوز أن يُخدش زجاج هذه الصورة بحجر أو بشبهة تحليل يقول انها مضبوطة أو منضبطة تحت سقف مصالح ومعطيات وحيثيات أكبر منها ومن كل لبنان معها..
ولا يجوز (مثلاً) أن تتلقى هي وإيران التي صنعتها، ضربة موجعة من إسرائيل، ولا تأخذ لوحدها الموضوع بصدرها وتتولى الردّ ميدانياً، فيما إيران تتابع القصف الهوائي والشعاراتي ولا تتحرك نصف خطوة باتجاه مضاد لما تراه مصالحها الاستراتيجية و«التفاوضية».
وهذه «مقاومة» متميزة بفرادة نافرة: صارت أيقونة مقدّسة في ذاتها. وكفّت منذ زمن عن البقاء ضمن المقاييس المعهودة. حيث إن كل مقاومة وطنية منذورة لخدمة وطنها وناسها إلا هذه المقاومة: الوطن والناس منذورون لخدمتها، ولإبقاء صورتها في موضع القداسة وأيًّا تكن الأثمان! الأمر الذي يذكّر بما حصل بعد عدوان العام 1967 الذي خسرت سوريا فيه الحرب والأرض لكنها «حافظت» على نظامها(!)
في سياق ذلك وزقاقه قيل بالأمس، كلام ممانع ناري كبير، زبدته ان «المقاومة» أثبتت جهوزيتها التامة وقدرتها الجبارة.. الخ. (وكأن تلك الجهوزية والقدرات كانت في حاجة الى تأكيد دموي آخر) لكن النصف الآخر المغيّب عن هذا الخطاب البائس، بقي ويبقى ترفاً لا حاجة له: لم ينتبه، لا سابقاً ولا راهناً، هؤلاء القوّالون الحكواتيون، الى أن «المقاومة» جاهزة، لكن لبنان ليس جاهزاً! و»المقاومة» قادرة لكن لبنان منهك! و»المقاومة» قوية لكن اللبنانيين يصلّون لرب الدنيا، في الليل والنهار، ان لا يدخلوا «في التجربة» من جديد وينكشف مدى ضعفهم أمام الدمار والدماء والخراب والتهجير والكوارث الفتاكة!