Site icon IMLebanon

في البيان والميدان..

مثلما أن مواقف تركيا من النكبة السورية أكبر من أفعالها (من دون رضاها)، فإن الموقف التصعيدي الروسي الراهن من تلك النكبة، يبدو حتى الآن وكأنه يندرج في السياق ذاته: كلام كبير ومواقف استفزازية لكن من دون تأثيرات ميدانية تُذكر!

وذلك في كل حال، يعيد الانتباه الى حقيقة أن موسكو لم تبدأ بالأمس في تقريش مواقفها السورية بالتسليح والحماية الديبلوماسية والضخّ التوتيري وتأكيد «التمسك« ببقايا السلطة الأسدية.. قبل «داعش» وخبرية «محاربة الارهاب» كانت تلك هي مواقف موسكو. وبعد «داعش» وخبرية «محاربة الارهاب» لا تزال كذلك!

والمفارقة، ان موقفها «المبدئي» هذا، يتصل بما ترويه عن «غدر« ضربها في قضية القذافي! حيث اعتبرت أن الغرب تصرف بطريقة مخالفة لوعود قطعها من أجل إصدار قرار من مجلس الأمن لحماية الشعب الليبي في العام 2011.. وراح بعيداً في ترجمة ذلك الى حدّ التخلّص شخصياً من العقيد الليبي وهو درّة التاج في البنيان الانساني والقيمي والسياسي والأخلاقي في هذا العالم!

وفق مقاييس القيصر المنشود في الكرملين، فإن القذافي كان أيقونة لا يجوز المسّ بها! وما فعله الغربيون الذين قصفوا قواته الزاحفة لإبادة «الجرذان» في بنغازي (والتعبير حرفي!) يدلّ على خلل أخلاقي في النظم الليبرالية بقدر ما هو تعبير عن ايثار تلك النظم ومصالحها الخاصة على حساب حرية الشعب الليبي وكرامته وتطوره وتمايزه ونظامه الفذّ!

مسافة ضوئية تفصل بين يقينيات ومنطلقات القيصر الروسي (المنشود) وسائر بني البشر.. والقذافي ومصيره الأسود هما علامة واحدة من علامات ذلك الفصل. مثلما ان التمسك ببقايا السلطة الأسدية وتبرئتها من المسؤولية عن أفظع كارثة انسانية في العصر الحديث هما علامة ثانية أكثر اشعاعاً ونوراً ونصاعة!

أعطى «داعش» موسكو صك براءة في الأخلاق والسياسة، عن سياستها غير الأخلاقية والمركوبة بالانتهازية الرخيصة في سوريا وعلى حساب شعبها ونكبته.. لكن، كي لا يضيع القياس وجب العودة الى الأصل: ما سمح لها بتطوير ذلك الصكّ هو أداء مستر أوباما أولاً، قبل خبرية الارهاب وإعلان الحرب العالمية عليه!

الفراغ الذي سبّبه أداء أوباما، تلقّفته موسكو وقرّرت تعبئته بالسلاح المناسب والموقف المناسب! وذلك الفراغ، في كل حال، كان الفائض الذي لم يستطع «داعش» تعبئته بالكامل، بعد تراجع الرئيس الأميركي عن معاقبة الأسد على جريمته الكيماوية في الغوطة الدمشقية.

والحاصل، ان البديلين «الداعشي» والروسي يتصرفان، برغم كل شيء، ضمن القواعد (غير المنظورة للعموم!) التي فرضها الأميركي الغائب في العراق وسوريا.. والتذكير واجب: بمجرد ان صدّق «داعش» نفسه وسيطر على مصفاة بيجي التي تعدّ الأكبر من نوعها في العالم، تلقى رداً صاعقاً من الطيران الأميركي أنهى تلك السيطرة خلال ساعات! وبمجرّد أن صدّق نفسه وسيطر على سدّ الموصل (الاستراتيجي) تلقى الردّ ذاته! وبمجرّد أن فكّر بالتمدد في كوباني (عين العرب) الكردية، أي على الحدود التركية للحلف الأطلسي، تلقى الردّ ذاته! وهمدت بعدها، حركة تبدل خرائط السيطرة والتمدد، ولا تزال هامدة عند حدود الأنبار والفلّوجة والموصل نفسها!

وحتى الآن، لا يخرج الضجيج الروسي عن مستوياته المعقولة في سوريا! ست أو سبع دبابات، وحديث عن إنشاء مطار في منطقة اللاذقية، أو تطوير مطار موجود أصلاً، وخطط لنشر بيوت جاهزة تستوعب بضع مئات من الخبراء والتقنيين، وليس أكثر.. ومع ذلك، فإن الأمر كان كافياً لأن تطلق واشنطن سلسلة تنبيهات الى موسكو، قبل أن تصل الى التحذير من احتمالات المواجهة مع طيران التحالف الغربي! ويبدو، في المقابل، ان موسكو تتصرّف تحت ذلك السقف وليس فوقه، وآخر ما تطلبه هو الدخول في قصة كبيرة واستراتيجية مع الغربيين والأميركيين، أو أن تصيب إدارة أوباما بإحراج استثنائي!

.. المهم في كل هذا المشهد، هو انه في مقابل تركيبة الكلام أكثر من الأفعال، هناك تركيبة مضادة تجري على الأرض مباشرة وتقوم على العكس، أي الأفعال أكبر من الكلام! وذلك منظور وواضح، من خلال حركة المعارضة السورية، من مطار أبو الظهور في ريف أدلب، الى الغوطة الدمشقية والزبداني.. الى بعض القلمون المحاذي للحدود اللبنانية!

علي نون