Site icon IMLebanon

في متانة النقد الوطني وسلامة القطاع المصرفي (2/2)

تقتضي الموضوعية تقييم مستوى الفوائد قياساً إلى مخاطر البلد. فالأسواق العالمية ما زالت تعتمد ما تنشره وكالات التقويم، ومنها موديز وستاندر إند بورز وفيتش ايبكا… من اجل تفادي الدخول في مقارنة منهجيات أنظمة تقييم كل منها، نعتمد للتبسيط مؤسسة Standard & Pours. ولكي نتجنّب أيضاً تعقيدات احتساب معدّلات الفوائد الدائنة والمدينة السائدة في عدد من الدول ذات درجة المخاطر المماثلة للبنان (أو الأفضل!) نعتمد المعدّلات التي ينشرها البنك الدولي لإستنادها على الأرجح إلى منهجية موحّدة. وطبعاً كلما ارتفعت درجة المخاطر ازدادت معدّلات وهوامش الفوائد في البلد المعني. ولتبيان هذا التدرج في ارتفاع الفوائد في سوق العملات الوطنية، نختار من جداول البنك الدولي عدداً من الدول بما فيها لبنان. أدرجناها من الأعلى تقويماً إلى الأسوأ، وقد أتت على الشكل التالي:

تظهر معطيات الجدول أعلاه أن مستويات الفوائد الدائنة والمدينة والهوامش في لبنان تتّسم باعتدال واضح مقارنةً مع الدول ذات تصنيف المخاطر المماثل. بل إن هوامش الفوائد في لبنان هي أدنى بكثير من تلك السائدة في دول تتمتّع بدرجة مخاطر أدنى (أي أفضل) من لبنان.

ورُبَّ قائلٍ إن الفوارق في الفوائد والهوامش تعود إلى الفوارق في معدّلات التضخم بين لبنان والعديد من الدول المدرجة في الجدول. وهذا صحيح إذ أن معدّلات التضخم في لبنان بقيت مضبوطة ما يحفظ القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود وبالليرة اللبنانية.

ويعود معظم الفضل في ضبط معدّلات التضخم – أدنى من 2% في متوسط السنوات الخمس الماضية – إلى السياسة النقدية التي اتّبعها البنك المركزي. فعلامَ كل هذا الضجيج؟!. قوة الليرة ضمانة لمستوى معيشة الناس وضمانة للحفاظ على مدخرات الطبقة الوسطى التي هي في طور إعادة التكوين بعدما أفقرتهم الحرب وهجّرتهم!

وتبيِّن بنية الفوائد في لبنان مقارنةً مع دول أخرى، من جهة أولى، أن توفير التمويل للإقتصاد من قبل المصارف بالليرة اللبنانية يتمّ بكلفة معتدلة ومقبولة (8,4%) قياساً إلى مخاطر البلد.

وحصة التمويل بالليرة تقارب ثلث التمويل بينما يتّم التسليف للقطاع الخاص بالعملات الأجنبية وبكلفةٍ تقارب 7,25% كما في تموز 2017، أي بكلفة أدنى من الكلفة بالليرة!… وطبعاً ما كان تمويل الإقتصاد ممكناً بهذه الكلفة المقبولة في ظلّ مخاطر البلد لولا الاستقرار النقدي الذي يسمح للمصارف باجتذاب الودائع ولولا السياسة النقدية الملائمة لأوضاع البلد ومخاطره السيادية.

ويتحمّل البنك المركزي جزءاً من كلفة تمويل البلد من خلال معدّلات الفوائد التي يدفعها على ودائع المصارف بالليرة لديه بمتوسط قدره 6,10%، أي أن المصارف تستخلص هامشاً في سوق الليرة قدره 54 نقطة أساس قبل أخذ كلفة الإستثمار في الإعتبار أو الربح!. ويدفع مصرف لبنان في المتوسط فائدة قدرها 4,19% على موجودات المصارف لديه بالعملات الأجنبية.

وبالمقارنة مع كلفة الودائع البالغة 3,64%، فإن هامش المصارف مرةً أخرى هو 55 نقطة أساس ويتوجب مقارنة هذا المعدّل مع كلفة الإقتراض من الخارج بالعملات الأجنبية للدول ذات المخاطر المماثلة. فمصر على سبيل المثال، والتي تصنّف درجة مخاطرها B- ، أصدرت مؤخراً 3 مليارات دولار، منها مليار لعشر سنوات بعائد قدره 6,65%!

كما أطلق الأردن إصداراً بقيمة 500 مليون دولار بعائد قدره 5,8% علماً أن درجة مخاطره أفضل من لبنان (BB-). أما تركيا التي لديها تقويم أفضل من لبنان ومن الأردن ومن مصر، فقد أصدرت قرضاً بقيمة ملياري دولار لعشر سنواتٍ بعائدٍ قدره 6,15%.

وللتذكير، فإن إجمالي دين لبنان بالعملات الأجنبية والبالغ 29,7 مليار دولار – حصىة المصارف اللبنانية منه 55% ما يفوق 16 ملياراً – ينتج عائداً متوسطاً قدره 6,13%!.. كما ورد في النشرة الأخيرة لوزارة المالية الرقم 44 نهاية حزيران 2017. وهو أدنى مما تدفعه دولة كالمكسيك (6,85%) بدرجة تصنيف +BBB (!) أو البرازيل (9,88%) بدرجة تصنيف BB أو حتى الهند (6,49%) بدرجة تصنيف -BBB.

ربما تكمن المشكلة في الهندسة المالية التي أجراها البنك المركزي في ظروف شديدة الحراجة والدقة، والتي يقتضي تناولها في ظروف إجرائها ليس إلاّ.

ويتبيّن في المعطيات أعلاه أن هوامش المصارف مع مصرف لبنان متدنية جداً وبحدود 55 نقطة أساس. فأين هو السخاء! أما إقراض المصارف للدولة فنتوقف عنده في القسم الثالث والأخير أدناه.

ثالثاً المصارف والدولة

ليس من خلاف على أن العجوزات السنوية المتمادية في مالية الدولة وما ينتج عنها من ارتفاع في المديونية العامة يشكلان معضلة وطنية حقيقية تحمل للبلد وللمجتمع وللمصارف، إذا استمرّت في التفاقم، مخاطر تتهدّد مع الوقت الإستقرار المالي، بمعنى أن يصعب الإستمرار في تمويلها بشروط مقبولة. فقد تخطّى حجم الدين العام الإجمالي 76,4 مليار دولار أميركي، ما نسبته أكثر من 145% من الناتج المحلي الإجمالي كما في نهاية شهر حزيران 2017.

وتتوزّع هذه المديونية العامة بنسبة 61,2% لليرة اللبنانية وبنسبة 38,8% للعملات الأجنبية والدولار بشكل رئيسي. وتحمل المصارف في ميزانياتها حصة من الدين العام تبلغ 47,5%، ويحمل مصرف لبنان 32,3% والمؤسّسات العامة (ضمان الودائع والضمان الاجتماعي) 7,7%. أما حصة القروض الثنائية والمتعددة الأطراف من الدول والمؤسسات الدولية فهي بحدود 3%.

ما يعني أن ما يزيد عن 90% من الدين العام في لبنان توفره أطراف مؤسّساتية وعامة، وأن ما يقلّ عن 10% موجود في محاقظ الأفراد والمؤسّسات الخاصة المقيم منها وغير المقيم. وهاتان السمتان لمديونية الدولة اللبنانية – أكثر من 90% لدى مؤسساتيّين وأكثر من 90% لدى المقيمين – يُكسبها صفة الثبات بعيداً عن الطابع المتقلّب الذي تتسم به المديونيات العامة للعديد من الدول الناشئة والنامية.

وكما أوضحنا أعلاه في القسم الثاني من هذه الورقة، فإن المصارف تحمل كما في نهاية شهر تموز 2017 ديناً على الدولة قدره 34,6 مليار دولار يتوزّع تقريباً مناصفةً بين دين محرّر بالليرة ودين محرّر بالعملات الأجنبية. ويُنتج عوائد للمصارف تبلغ في المتوسط 6,68%. وهو عائد معتدل بل متدنّ كما بيّنا أعلاه قياساً إلى المخاطر السيادية للبنان.

وتجدر الإشارة كذلك إلى أن الخزينة تملك في حساباتها لدى البنك المركزي ودائع بمقدار 23391 مليار ل.ل. كما في نهاية شهر حزيران 2017 تقابلها مدفوعات سدّدها مصرف لبنان عن الخزينة بالعملات الأجنبية قيمتها 14588 مليار ل.ل. للفترة ذاتها. ما يجعل للخزينة رصيداً دائناً لدى البنك المركزي بقيمة 8803 مليار ل.ل.

ويشكّل هذا الرصيد، من جهة أولى، مساهمةً من وزارة المالية في كلفة الاستقرار النقدي، ومن جهة ثانية، إحتياطاً يخوّل الوزارة إذا تعذَّر حصولها في فترة زمنية معيّنة على التمويل بشروط مقبولة استعماله لحين تحسّن شروط الاقتراض.

وهكذا تتحمّل أطراف المعادلة الثلاثة كلفة الإستقرار النقدي ولو بأعباء متفاوتة: المصارف في الدرجة الأولى من خلال بنية فوائد وهوامش متدنية قياساً إلى مخاطر البلد بعكس ما يذهب إليه البعض؛ والبنك المركزي في المقام الثاني من خلال أسعار الفوائد المدفوعة على إيداعات المصارف لديه، وذلك التزاماً بالمهمة المكلف بها قانوناً لحماية الإستقرار النقدي. وأخيراً في المقام الثالث الخزينة من خلال كتلة ودائعها بالليرة لدى البنك المركزي. إنها ضرورات الإستقرار النقدي لا محظوراته.

في الختام عودٌ على بدء. وفي البداية كان الإقتصاد بما هو انتاج واستهلاك. والبلد يستهلك فوق ما يسمح به إنتاجه أي مداخيله. بكلام آخر، الإدخار الوطني بما فيه كافة التحويلات والتدفقات المالية من الخارج لم يعد كافياً لموازنة الإنفاق الوطني.

وتنعكس فجوة الإدخار – الإنفاق عجزاً منتظماً في موازين المدفوعات الجارية للبلد. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تستمرّ هذه الفجوة بما لا يقلّ عن 15% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل ضمن المعطيات القائمة 7 إلى 8 مليارات دولار سنوياً. فكيف نموِّل هذه الفجوة في القادم من السنوات. ففي الغابر منها وفَّر النظام المصرفي المركزي والتجاري مقومات تجسير الفجوة، بالرغم من كل النقد القائم.

ولكن يصعب الإستمرار في هذا المنحى إلاّ إذا عادت سلطة الدولة ومعها كل حقوقها بما فيه جباية الضرائب من كل المكلّفين ومن كل المناطق، وإلاّ إذا حدثت إصلاحات تبدو وعودها كثيرة وكبيرة مع العهد الجديد إنما تبقى العبرة في التنفيذ. إلى حين ذلك، ليس المطلوب تهديم الهيكل على جميع اللبنانيّين المقيمين والمغتربين، بل المطلوب الإستمرار في حسن إدارة المخاطر وسط العواصف والمتغيّرات التي تُحيط بوطننا وشعبنا.