حلت الذكرى العاشرة لحرب عام 2006 مبكرة في إسرائيل. احتلت وسائل الإعلام العبرية في الشهرين الماضيين، مع تنافس المسؤولين الإسرائيليين والخبراء ومراكز الدراسات في البحث وإعادة البحث، تقارير عن الفشل و»الدروس والعبر» والقدرات على خوض الحرب المقبلة وتوقعاتهم لها.
إلا أن الجامع المشترك في المقاربة الإسرائيلية، على أنواعها، يشهد على إقرار غير مباشر بمحدودية قدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ المهمة، عبر الإقرار والمطالبة بضرورة إبعاد الحرب المقبلة، والامتناع عن التسبب بها. اتسمت المقاربة الإسرائيلية في أيام الذكرى بالتجاذب بين الإقرار بالفشل ومحاولة ترميمه. كانت العين الإسرائيلية مركزة على الداخل، لطمأنة المستوطنين، وعلى حزب الله والساحة اللبنانية، بهدف الردع. كان أهم هذه المحاولات حديث رأس الهرم السياسي في تل أبيب، رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، الذي أقر بالمعادلة القائمة وقواعد الاشتباك البينية مع حزب الله، رغم تشديده على أن إسرائيل استطاعت أن تفرض «هدوءاً» على الجبهة اللبنانية. وبحسب تعبيره: الهدوء مقابل الهدوء.
إلا أن معادلة الهدوء، كما تفاخر بها نتنياهو، هي محاولة تعمية للحقائق وتجاهل وتجاوز لأهداف إسرائيل الاستراتيجية مما قصرت يدها عن تحقيقه عام 2006، وما قصرت عن تحقيقه أيضاً في الحرب غير المعلنة في السنوات العشر التي أعقبت الحرب الماضية: أولويات إسرائيل تجاه الساحة اللبنانية كانت، ولا تزال وستبقى، مركزة على تغيير الوضع الاستراتيجي على الجبهة الشمالية من جذوره، وإنهاء تهديد حزب الله، وليس فقط «هدوءاً»، يوصف أيضاً في إسرائيل ــــ للمفارقة ــــ بأنه «هدوء وهمي». اجتثاث حزب الله وتهديده وما يمثله هو ما سعت إليه تل أبيب من خلال عملية التسوية السياسية في تسعينيات القرن الماضي، وسعت إليه خلال اعتداءاتها المتكررة على لبنان في فترة الحزام الأمني و1993 و1996، وأيضاً خلال حرب عام 2006، وهو ما تسعى إليه من خلال الحرب في سوريا، كإحدى أهم النتائج الإسرائيلية المنتظرة للحرب الدائرة هناك. تعددت الحروب والسيناريوهات والأدوات المباشرة وغير المباشرة، وبقي الهدف غير المحقق واحداً: اجتثاث حزب الله وتهديده. تدور بين إسرائيل وحزب الله حرب من نوع آخر بعد انتهاء الحرب المباشرة عام 2006. وهي إحدى أهم نتائج الحرب وفشل إسرائيل فيها. حرب يسميها الجيش الإسرائيلي «المعركة بين الحروب»، وتهدف الى منع أو تأجيل الحرب المقبلة، عبر صد وإحباط تعاظم حزب الله عسكرياً: لم يعد الحسم في مواجهة حزب الله هو المطلوب، بعد عجز تحقيقه؛ لم تعد الحرب هي الأداة المركزية لإزالة تهديد حزب الله، بعد ثبوت الفشل؛ ونتيجة للفشل، تطلعت إسرائيل الى تحقيق المهمة بأدوات ووسائل بديلة، وإحداها كان الدفع باتجاه الأزمات الداخلية في لبنان لتطويق حزب الله، أو عبر محاولة ضرب سوريا وتغيير هويتها، باعتبارها الشريان الحيوي لقدراته وتعاظمه العسكري.
فشلت إسرائيل في الحرب وفي سنوات ما بعد الحرب
انسحب الفشل في الحرب المباشرة، عام 2006، على الحرب الجديدة. زادت قدرات حزب الله أضعافاً مضاعفة، كماً ونوعاً ودقة إصابة وخبرة قتالية، ما نقل مقاتلي الحزب من الأطر الدفاعية الى الأطر الهجومية. في أوجه عدة، يعدّ فشل «المعركة بين الحروب» أقسى من فشل الحرب قبل عشر سنوات، وتداعياته السلبية أوسع وأشمل ومن شأنه أن يحدّ من إمكانات إسرائيل على تفعيل قدراتها العسكرية في وجه حزب الله، والساحة اللبنانية.
منذ قيام إسرائيل، عام 1948، عدّ لبنان ساحة مفتوحة ومتاحة للاعتداءات الإسرائيلية على أنواعها، بلا ردع وارتداع وتبعات. جل ما يمكن أن تتلقاه إسرائيل، نتيجة لاعتداءاتها هو شجب دولي أو بيان صادر عن الأمين العام للأمم المتحدة. لبنان كان الحلقة الأضعف، والأشد ضعفاً، من كل ساحات المواجهة العربية ــــ الإسرائيلية، رغم أنه لم يكن جزءاً أساسياً فيها. بتعبير عامي، تحول لبنان الى ساحة «فش خلق» للقادة الإسرائيليين، وإلى ساحة هروب من أزماتها الداخلية.
هذا الواقع لم يعد قائماً. وإذا كانت إسرائيل في الماضي تتطلع الى ردة الفعل الممكن أن تصدر عن ساحات وجبهات أخرى محيطة بلبنان، بما يتعلق بنشاطها الاعتدائي فيه، كميزان لإقدامها على الفعل أو الامتناع عنه، إلا أنها الآن تنظر الى ردة الفعل اللبنانية، وتحديداً حزب الله، لتزن أفعالها واعتداءاتها في الساحات الأخرى. لا شك، وهو خارج عن النقاش المنطقي، أقله في الميزان الحالي بين الجانبين، أن رد فعل حزب الله حاضر وردعي تجاه أي اعتداء يوضع على طاولة البحث والقرار في تل أبيب، سواء كان ذلك في لبنان أو خارجه. انقلبت الآية. إسرائيل ليست مردوعة فقط عن الساحة اللبنانية، بإقرارها، بل هي مردوعة في ساحات أخرى، ربطاً بردع حزب الله. وهذه أهم نتائج الحرب الماضية، والحرب الحالية غير المباشرة: «المعركة بين الحروب».
جديد إسرائيل الى جانب تهديداتها في الذكرى العاشرة لحرب عام 2006، هو «اكتشاف المكتشف»، وهو محاولة تظهير الواقع القائم الردعي المتبادل كإنجاز لحرب مر عليها عقد من الزمن، مع تناسٍ مقصود لأهداف الحرب المعلنة والفشل في تحقيقها: اكتشفت إسرائيل أنها تردع حزب الله عن الابتداء بحرب ضدها. مواقف وكتابات عبرية أكدت هذه «النتيجة الاستثنائية» للحرب الماضية، رغم أن الاستثنائي ليس أن تردع إسرائيل حزب الله، ربطاً بميزان القوى العسكرية بين الجانبين، بل الاستثنائي هو ردع حزب الله لإسرائيل، بإقرارها. أبرز من تهكم على مقولة الردع الإسرائيلي في وجه حزب الله، كنتيجة للحرب الماضية، كان عضو لجنة فينوغراد التي حققت في فشل الجيش الإسرائيلي عام 2006، يحزقيلي درور. في مقابلة أجرتها معه صحيفة «إسرائيل اليوم» (29/07/2016)، رفض درور الذي تجمعت لديه كل معطيات الحرب وأهدافها وخططها ومجرياتها… وفشلها، أن تكون إسرائيل قد حققت ردعاً استراتيجياً في مواجهة حزب الله نتيجة الحرب الماضية، وإنما اقتصر إنجازها على «ردع تكتيكي»، ونتيجة لذلك اعتبر أن الهدوء السائد على الحدود اللبنانية هو «هدوء تكتيكي»: «لقد تم تحقيق ردع تكتيكي، كان يمكن تحقيقه خلال أول خمسة أيام من الحرب من دون ضحايا ومن دون إصابة الجبهة الداخلية. الطبقة القيادية لحزب الله، ناهيك عن الزعامة، لم تتضرر. كان يجب التوقف بعد خمسة أيام، وكان ذلك سيعتبر إنجازاً جيداً، من دون تعريض الجبهة الداخلية للضعف. لم يتحقق ذلك. أنا أرى أن حرب لبنان الثانية تتراوح بين الفشل المباشر وتفويت الفرصة». يضيف درور: «الهدوء مع لبنان هدوء تكتيكي، ولا يوجد هدوء في المواقف المعلنة هناك ضد إسرائيل ولا في عمليات التسلح القائمة. الهدوء محلي وموضعي وتكتيكي، وليس استراتيجياً».