Site icon IMLebanon

…  في النفق

 

كل ما يجري في لبنان منذ الرابع والعشرين من مايو (أيار) الماضي (أكثر من 200 يوم)، تاريخ اختيار 111 نائباً تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، ليس مساراً للتشكيل، بقدر ما يشهد البلد محطات تعطيل فعلي، أحياناً بالسياسة، وأكثر الأوقات بالوعيد، وسياسة الإصبع المرفوعة مروراً بمناورات القصر، في نهج متكامل يريد فرض إدارة الحكم والبلد بالأعراف والبدع، بعدما جرى التطاول على الصلاحيات، كنتيجة لحكم البلد من خارج الدستور. الهدف من ذلك قيام حكومة بشروط «حزب الله» ورؤيته، ووفق توقيت النظام الإيراني ومصالحه، أو كل السيناريوهات مفتوحة لإفهام من لم يفهم أن «الحزب» لم يعد يهتم بالحصول على الأكثرية الحكومية وحسب؛ بل أساساً على حقٍّ حصري بإدارة البلد، استناداً لميزان القوى الراهن.

النظام الإيراني عبر وكيله المحلي بات يذكِّر اللبنانيين كل يوم بوضع يده الثقيلة على البلد. هذا الخطر تجاهله كل المسؤولين اللبنانيين؛ لأن أولويتهم الوحيدة تمثلت في حرب تنازع الحصص، والبلد يغرق ويكاد يضيع!

النظام الطائفي اللبناني مولِّد للأزمات، وآليات المحاصصة الطائفية لم تساعد في حلِّ أي منها، وهي تتالت منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعند كل استحقاقٍ دستوري مرتبط بتداول السلطة. دوماً كان البلد يُدفع إلى الفراغ لفرض تنازلات على الأطراف الأخرى في المعادلة، وبالتحديد رئاسة الحكومة ومن تمثل.

ما بعد حرب عام 2006 والاستقالة التعسفية للوزراء الشيعة، وضع «حزب الله» لنفسه مهمة السيطرة على الحكم والحكومة. وبعد كل التجارب التي مرَّ بها لبنان من احتلال وسط بيروت وارتكابات 7 مايو 2008، إلى تسوية الدوحة، كانت خطة «الحزب» تتقدم رغم أنه لم يحُز أكثرية نيابية في انتخابات عام 2009.

كل التجربة تقول إن الهدف هو كسر المعادلة اللبنانية التي كرسها اتفاق الطائف، القائمة على التوازن بين الطوائف. يريد أن تكون طائفة «الولي الفقيه» التي نجحت في تحقيق أكثر من «دوفرسوار» في الطوائف الأخرى، وليس في الطائفة الشيعية، هي المهيمنة على البلد ومقدراته، وبعدما أدت التسوية الخطيرة إلى نجاحه في فرض مرشحه الرئاسي، وهو الموقع الماروني الأول، صار يناور لفرض رؤيته في الصيغة الحكومية، وهي الموقع السني الأول.

بالنسبة لـ«الحزب»، حان الوقت له ليقبض على القرار كاملاً، فإذا ذهب إلى الحرب تكون الحكومة بيده، وإذا أراد زج البلد في الدفاع عن المصالح الإيرانية بوجه العقوبات، فما من جهة قادرة على السؤال أو مجرد رفع الصوت.

لماذا هذا الاستهداف للبنان؟ لأنه ببساطة لو ألقينا نظرة متفحصة على الوضع الإقليمي الحساس، نجد النظام الإيراني اليوم تحت مقصلة العقوبات، وكل نفوذه ووجوده في سوريا وُضِعَ على الأجندة الدولية، ويستحيل عليه خوض أي مواجهة من خلال الساحة السورية. ولا يخفى كذلك أن الرهان على الحوثيين بات من الماضي، فالوضع الميداني لم يعد في صالحهم، وفُرض على الحوثيين الذهاب إلى المفاوضات في السويد، وبالتالي الرهان هناك قيد السقوط. أما في العراق فالواضح أن كثيراً من المواقع الشعبية الفاعلة جداً لا ترضى بأن يبقى العراق ورقة بيد النظام الإيراني.

في هذا السياق، جاء الفصل الجديد من عدوان النظام الإيراني على لبنان، وتمثل بنفق كفركلا – المطلة، وما يدور من أحاديث عن أنفاق أخرى غير مكتملة، وكأن طهران أرادت أن توجه رسالة مفادها أنها تمسك بلبنان ورقة تستخدمها كما تشاء، بما في ذلك امتلاك نظام الملالي التوقيت لخوض المواجهة وقلب الطاولة على الاستهداف الأميركي، الذي يريد أن «يعتصر إيران» لإرغامها على تغيير سلوكها وفق جون بولتون. لكن «حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر»، انكشفت «الخطة الهجومية» وكان كل ما جرى عبارة عن مغامرة غير محسوبة، تسببت بمزيد من العزلة للبنان، المتهم الآن بخرق القرار 1701، وظهرت سلطاته أمام المجتمع الدولي في موقع التعامل باستخفاف مع الشرعية الدولية، وفي موقع التغاضي عما قد يعرض لبنان لما هو أخطر من «حرب تموز»، وفضحت «حزب الله» أولاً أمام بيئته المباشرة، وبالتالي أمام كل اللبنانيين؛ لأنه عرَّض أمنهم واستقرارهم والازدهار في الجنوب في ظل القرار الدولي 1701، لخطر كبير وأكيد.

ليست القصة نفق كفركلا، أو أنفاق حضَّرها «حزب الله» تلبية لأجندة الحرس الثوري، ويُشاع أن العدو الإسرائيلي كان يعرف بها من اللحظة الأولى، فكشفها وفضح لبنان الرسمي في التوقيت الذي أراده؛ بل هي قصة أخرى، قصة إصرار التابعين للخارج على إبقاء البلد في نفق مظلم، واستطراداً وضع لبنان أمام الخطر الحقيقي: خطر العدوان، وهو احتمال كبير؛ خصوصاً أن العدو في موقع الدفاع عن النفس من وجهة القانون الدولي، وخطر إعادة مجلس الأمن النظر بالقرار 1701، ما دام لبنان الرسمي لا يحترم موجباته. إنها قصة سلطة لبنانية تخلت بقضها وقضيضها عن دورها، فأمعنت في الغياب عن موجباتها بعد حرب عام 2006، ودفنت رأسها في الرمال، في وقت كان رموز ميليشيات الحرس الثوري، مثل قيس الخزعلي وسواه، يجولون في الجنوب الذي تحولت أجزاء منه إلى ترسانة صاروخية لـ«فيلق القدس»، فيما يُمنع على القوى الأمنية اللبنانية التحرك إلا بـ«تنسيق» مسبق (…)، وتَمنع «البيئة الحاضنة» قوات «اليونيفيل» من القيام بدورها، ما عقَّد كثيراً إمكانية خروج لبنان إلى النور والدفء والحياة.

من أنفاق الجنوب إلى نفق التأليف المتعثر للحكومة، تتلاشى الدولة، وخطر الزوال يهدد البلد الذي حوَّله المسؤولون رصيف هجرة للقادرين، ومعه بدا أهل السلطة على حقيقتهم، لا يعيرون أي اهتمام لعامل الوقت، فهم عوض أن تشكل حادثة أنفاق الجنوب مناسبة لردة فعل جدية حيال مستوى الخطر، ولانتفاضة كرامة واستعادة دور لرسم حدود حماية المصلحة اللبنانية من ألاعيب حكام إيران، والوقت ليس في مصلحة إيران، ولا وكيلها المحلي، لم يوجه ولو سؤال لـ«الحزب» وطهران من خلفه عن المسؤولية عن توريط البلد؛ بل ذهب القصر بعيداً في تجاهل الدستور ووقائع عقبات التأليف، بالتلويح بوضع مهلة أمام الرئيس المكلف أو الاعتذار، وإلا التلميح بالذهاب إلى مجلس النواب لوضع التكليف في عهدته، في خطوة «ظاهرها دستوري وباطنها فتنوي»، على حدِّ وصف الرئيس نجيب ميقاتي، ونتيجتها انقسام نيابي كما يحذر الرئيس نبيه بري. وهكذا يستمر التلزيم في الجنوب، ويصبح الأساس أن هناك من لم يعد بوسعه السكوت عن أداء الرئيس المكلف، المطلوب منه لتسهيل مهمته الموافقة على دعوة رأس النظام السوري إلى القمة الاقتصادية في بيروت، رغم قرار الجامعة العربية مقاطعة نظام دمشق، وعليه البصم على توزير من يريد «حزب الله» توزيره من نواب السُنة التابعين له، إلى القبول برئاسة شكلية لحكومة قرارها الحقيقي في طهران، وما من قيمة للثلث المعطل إذا نجح فريق القصر في الحصول عليه.

لم يعرف لبنان في كل العهود الاستقلالية مثالاً لهذا الوضع المأزوم، انهيارات شاملة، والبلد لم يعد حقيقة صالحاً للعيش، وكل المؤشرات تؤكد أن الإصرار على الإخلال بالحد الأدنى من التوازن، والإقرار بغلبة السلاح على التركيبة اللبنانية وتوازن مكوناتها، ليس إلا وصفة سريعة لزلزال يصعب التكهن بارتداداته.