IMLebanon

في الزيارة..

عندما سئل أحد السادة المطارنة في بكركي قبل يومين، عن زيارة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى دمشق التي لا تزال خاضعة لسيطرة الأسد والمدافعين عنه، أجاب بالحرف: «وهل نذهب إليها بعدما تصير تحت سيطرة داعش؟».

السؤال في ذاته يحمل صبغة جدلية، باعتبار أن البطريرك الراعي زار دمشق بعد اندلاع الثورة السورية ثم زارها بالأمس ولمناسبتين دينيتين رعويتين، ما دفع ويدفع سوريين ولبنانيين كثراً إلى اعتبار الزيارتين عوناً معنوياً وسياسياً للسلطة الأسدية وركوناً إلى مناخها.. ثم جاء جواب سيادة المطران بالأمس ليؤكد ذلك بشكل أو بآخر، ومن حيث لا يريد ربما، من خلال جوابه الذي يندرج ضمن القياس الذي أراده ويريد المحور الإيراني الأسدي تعميمه ووضعه أمام العالم باعتباره حقيقة لا تُناقش: إما الأسد وإما «داعش».

لكن هل هذه هي حقيقة النكبة السورية بعد أربع سنوات وثلاثة أشهر على اندلاعها؟ وبعد مقتل مئات الألوف من أهلها وتشريد الملايين في الداخل والخارج؟ والدمار الهستيري الذي أصاب ويصيب عمرانها ومؤسساتها؟ وهل صحيح أن الخيار الوحيد القائم اليوم هو إما استمرار الأسد أو تحكم «داعش»؟ وهل هذه هي المقاربة «الموضوعية» لما يجري في سوريا، من قبل واحدة من أعرق وأهم المؤسسات الدينية الكنسية في الشرق؟ وهل صحيح أن الثورة السورية هي «داعش»؟ وأن السوريين، في أكثريتهم المظلومة، هم أولئك الذين لا يعرفون كيف يعيشون مع الآخر، وكيف يحافظون على إلفتهم معه؟ وهل هذا هو واقع سوريا منذ ألفي عام؟! هل هذا هو واقع مسيحيي سوريا على مرّ تاريخها؟ هل جاءت الكنيسة مع آل الأسد وتذهب معهم؟ وهل يختصر بضعة إرهابيين موبوئين مشبوهين، ملايين السوريين؟

يذكّر قياس المطران في بكركي، بذلك الذي اعتمده «حزب الله» لتبرير حربه مع الأسد ضد الثورة السورية.. أي رفعه لافتة «حماية المقامات الدينية» في دمشق ومحيطها! وكأن هذه المقامات بُنيت مع آل الأسد وتُدمّر مع رحيلهم؟ أو كأنها لم تكن موجودة طيلة 1400 عام؟ أو كأنها لم تعمّر ولم تُصنْ من قبل الشعب السوري نفسه على مدى ذلك التاريخ؟ أو كأنها كانت دائماً وأبداً محمية بالنار والبارود والبراميل المتفجرة والغارات الكيماوية وعلى مدى مئات السنين؟!

ربما لو اكتفى سيادة المطران بالتأكيد على استقلالية قرار البطريرك بالتحرك لخدمة رعاياه، أينما يرى ذلك ضرورياً، لكان يمكن الركون إلى الجواب وإيثار الابتعاد عن «المواضيع الحساسة» والمثيرة للتأويل السياسي. لكن جوابه الذي يفترض أن البديل عن الأسد في حكم دمشق هو «داعش»، فيه الكثير من دواعي تأويل الكلام وتفسيره سياسياً، ويستدرج في كل حال، مشاعر امتعاض لا تُخفى، مثلما تستثير أسئلة محقّة عن قصة «حلف الأقليات» المنشود!!

لعبة الرموز حساسة في هذا الشرق المعقّد! وتزيد حساسيتها في هذا الزمن النكبوي غير المسبوق.. وربما لا يقصد البطريرك الراعي من زيارته الثانية إلى دمشق أن يوحي بخيار مؤيد للظالم ومضاد للضحية! وربما لا يقصد أيضاً سيادة المطران أن يختصر ثورة السوريين بـ»داعش» الإرهابية التكفيرية والعدمية.. لكن لا يمكن لأي مراقب أن لا تغريه لعبة المقارنات وأن لا يلحظ مثلاً أن معظم دول الاتحاد الأوروبي ترفض شراء بعض المنتجات الزراعية الإسرائيلية لأنها آتية من مستوطنات في أراض فلسطينية محتلة، في حين يقبل أحد أبرز الرموز الروحية في هذه المنطقة زيارة عاصمة خاضعة لسفاح فتّاك عز نظيره؟!

في حدود مداراة اللغة ومراعاة المقام يُكتب هذا الكلام، وهو في الأول والختام لا يُعبّر إلاّ عن رأي صاحبه، ولا يلزم أحداً.. والسلام!