لكثيرين أن يفترضوا العكس، لكن الواضح لكثيرين آخرين حتى الآن هو أنّ أسباب حرب جديدة بين إسرائيل ومحيطها المزدوج، لبنان وسوريا حيث موضع «الخطر» المتأتي من إيران و«حزب الله»، لم تكتمل بعد. وإنّ الطرفين، لا يريدانها! ولا يجدان مصلحة لكلّ منهما فيها!
وتلك وجهة نظر جديرة بالاحترام تبعاً لتقاطع مصالح، يبقى حتى إشعار آخر أقوى من تقطّع تلك المصالح: إيران مشغولة حتى النخاع في متابعة «صادراتها» الى المحيط العربي. والاستمرار في إشاعة تهتك شمولي غير مسبوق يطال الحجر والبشر والاستقرار الأمني والقيمي والسياسي والاجتماعي و«الفكري» لعموم أهل المدار العربي الإسلامي.. وإسرائيل مشغولة بمراكمة تلك الهدايا الى حدِّ وصولها الى الارتباك في ترتيبها! وفي تعداد فوائدها وفضائلها! وفي كيفية البناء عليها «وتقريشها» إزاء معضلتها المركزية المتأتّية من عدم قدرتها على تذويب الحق الفلسطيني برغم كل شيء!
وقيل ويُقال وسيبقى يُقال، إنّ ما فعلته إيران ومحورها في العرب وعموم المسلمين في سنوات معدودات، لا تقدر على «إنجاز» جزء يسير منه أفحل عقول التآمر «الصهيو-أميركي» على مدى عقود آتية.. بل الأمر اليقيني أسوأ: فكرة النزاع مع إسرائيل منذ بداياتها، كانت سبباً رافعاً ودافعاً (وشبه وحيد) لتظهير حالة وحدوية أكبر من الكيانات السياسية القائمة. ومن التمايزات الطائفية والمذهبية والعرقية الموجودة في المنطقة الممتدة من جبال الأطلس الى تخوم إنطاكيا.. وكان العداء للإسرائيليين رد فعل عفوياً ومقدّساً ولا تشوبه شبهة الخطأ! أو الاستبداد! أو العنصرية! أو حتى ورود مسوغات كثيرة له في النص القرآني ذاته.
ركِبَ على «القضية» من ركِبَ! وتحت ظلالها نُكبت شعوب المنطقة بالعسكرة والاستبداد. وتسابقت النظم الحاكمة وأندادها في الاسفاف الشعاراتي في موازاة أداء لا يشرّف أحداً! وكانت الخيارات المطروحة على الناس تُراوِح بين البائسة والأكثر بؤساً، والمفاضلة بينها تشبه المفاضلة بين صدّام حسين وحافظ الأسد أو بين أبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي أو بين عبد الحكيم عامر وميشال عفلق!.. أو هذا ما انتهت إليه خلاصات نحو خمسين عاماً من التجارب النظاميّة والحزبيّة التي جاءت وراحت من أجل «تحرير الأرض والإنسان» وانتهى بها الحال الى «نجاحها» التام في تأسيس كل أسباب الكوارث الراهنة!
لكن ذلك لا يلغي حقيقة وجود تلك الوحدة الفطرية (الإعجازية!) إزاء قضية واحدة (فلسطين) طغت على كل قضية مفترضة أخرى! وما كان لمتنكّب أو طامح للشأن العام أو «لقيادة الأمة» في مواجهة تحديات «التنمية والاستعمار والاحتلال والمؤامرات الأجنبية»، أن يستند في سعيه الى شيء قُطري، أو فئوي أو طائفي أو مذهبي! بل الحتمي والمسلّم به! هو أن يكون الطرح على مساحة الجغرافيا والديموغرافيا العامة، المعنية بالجهد التبشيري والنضالي، من عبد الناصر الى «البعث»، الى «القوميين العرب»، الى «القومي السوري الاجتماعي».. وصولاً حتى الى «الشيوعيين العرب».
.. مع إيران و«صادراتها» و«ثورتها» و«حرسها» وقضاياها، تشظّت الشظايا! وفار التنوّر الطائفي والمذهبي والعرقي والكياني والاجتماعي، حتى صار التفتيت سمة عامة أو يكاد. والتمايز سبباً للبقاء! والفتنة المذهبية سلاحاً شرعياً! والفتك بالآخر قتلاً وتنكيلاً وتهجيراً «علاجاً» لا بدّ منه لإكمال أنشودة الاقتدار والانتصار وإتمام عدة «الفئة الناجية»!
إزاء ذلك، يمكن أن يُتّهم بالقصور الذهني من يفكر، في إسرائيل تحديداً، بالتدخل في ما يحصل! ومن يفكر في إيران في استدعاء مثل ذلك التدخل! علماً أنّ الطرفين مهمومان وقلقان من قصة «القضاء على الإرهاب»: إسرائيل بسبب تغطية إيران للفراغ المتأتي من اندثار «داعش» وأطنابه! وإيران بسبب تشليحها أحد أبرز تبريرات حشدها وتدخلاتها وغاياتها وسياساتها.. ثم تركيز الأنظار (في المرحلة الآتية) باتجاهها، إذا صحّت توعّدات الأميركيين! ومشى الروس في ركب مصالحهم حتى الآخر!
وبرغم هذا، فإنّ من الحصافة التامّة الافتراض بأنّ الثابت الوحيد في هذه المنطقة هو الزئبق الذي لا يرسي على برّ! وأنّ المنطق غائب في إجازة مرضيّة طويلة! وأنّ حديث الحرب في نواحينا تلقائي وعادي! وأنّ اليقينيّات نسبية! وأنّ الخلاصيين في إسرائيل وإيران على القدر ذاته تقريباً من النفوذ والقوّة.. وأنّ معهم، كل شيء وارد وممكن ومحتمل.. والله أعلم!!