لم يعد سراً الحديث (الجدّي) عن احتمالات شنّ إسرائيل عدواناً جديداً على لبنان. «منطق» السياسة والتوقيت و«الظروف الموضوعية» يسمح لذلك الرأي بالتقدم الى الأمام، لكن هذا المنطق ذاته يأخذ الأمور الى مكان آخر معاكس.
والفرضيّة الأولى مبنيّة على أمرَين حاسمَين، لا يمكن إسرائيل أن تبادر الى حرب من دونهما. الأوّل إدارة دونالد ترامب وسياساتها المعلنة والمفتوحة على مواجهة إيران وتمدّداتها وتدخلاتها، وبالتالي «تفهمها» التام (والعادي!) لتوجّسات الإسرائيليين وعدم احتمالهم التعايش مع مخزن صواريخ «إيراني» عند حدودهم الشمالية! والثاني هو التيقّن سلفاً من الوصول الى نتيجة «مفيدة»، أو الى شيء من ذلك. ومثال الـ1701 لا يزال حاضراً ناضراً باعتبار أنّه في المحصلة، أنتج فترة هدوء امتدت على مدى عقد من الزمان، ولم يسبق لها مثيل في تاريخ هذا النزاع.
والواضح أنّ حكومة نتنياهو تجد أمامها فرصة لا بدّ من قطفها واستغلالها في أوانها! باعتبار أنّ شروط الحرب ضدّ «حزب الله» ولبنان استطراداً لم يسبق أن اكتملت بالصورة التي هي عليه اليوم. وتلك الشروط تكمل الموقف الأميركي ولا تعانده. وهي في كل حال، وللمفارقة، تسمح للفرضيّة المعاكسة (الثانية) بالتقدّم!
ومن ذلك، أنّ «حزب الله» ذهب بعيداً في تورطه المباشر في سوريا وفي غيرها. وضرب بيديه هو وفي العمق، كل الإرث الذي بناه تراكمياً في فترة تصدّيه للاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي الجنوبي. وأدخل نفسه بنفسه في شرنقة فتنوية حوّلته (برغبته!) الى تنظيم عسكري مؤدلج مذهبياً ومرتبط بأجندة إيرانية عدائية تجاه العموم العربي والإسلامي الأكثري.. طارت «المقاومة» مع طيران أولى رصاصاته باتجاه السوريين وثورتهم، ثم باتجاه الاستقرار الوطني والاجتماعي لدول لم تفعل معه شيئاً غلط. من البحرين الى اليمن الى السعودية الى غيرها.
ثم أنّه استمرأ حديث «الانتصارات» الوضعية والإلهية وصار مدمناً (سلبياً!) عليها. من دون أن ينتبه (أو إنتبه لا فرق!) الى أنّ تلك «الانتصارات» هي الرديف الوحيد للنكبات والويلات التي لحقت بعرب ومسلمين! أي، إنه بمعنى آخر يحمل في عنقه وزرَين ولا أخطر. الأول إيغاله في الفتنة من موقع الظالم وليس الضحيّة. والثاني إيغاله في تحطيم «الفكرة» القائلة بأنّ إسرائيل هي العدو الوحيد والحقيقي لعموم أهل هذه المنطقة!
المشكلة العويصة (الفرعية) هي أنّ «حزب الله» يعرف ذلك ولا يهتم! بل يبدو في واقع الحال، شديد الثقة والاعتداد بنفسه انطلاقاً من رؤى إيمانية خاصة به!
تفرّجت إسرائيل عليه وهو يفعل ما عجزت عن فعله هي على مدى سنوات في سوريا وغيرها. وتفرّجت عليه وهو «يُراكم خبرات» قتالية ويستنزف رجاله وقيمه أينما أمكنه ذلك. وتفرجّت عليه وهو يمارس تلك الطقوس الانتحارية ويروّج لها باعتبارها كل شيء إلاّ البلاء! وتفرّجت عليه وهو يفتح أمامها أبواباً للهروب من تاريخها وصنائعها وصولاً الى جعلها رابحة في باب المقارنات و«المسابقات» بين المجازر التي ارتكبتها في كل تاريخها بحق الفلسطينيين والعرب وتلك التي ارتكبها ويرتكبها محور «الممانعة» في سوريا وغيرها! وتفرّجت عليه وهو يستنسخ طقوس «الهنود الحمر» بالرقص حول النار ومواجهة الرصاص بالسهم النشّاب وصولاً الى الاندثار..
.. تفرّجت وتتفرّج على تحوّل أحلامها ومشاريعها الى وقائع وحقائق، من دون أن تتكلف شيئاً، لا مادياً ولا بشرياً.. فلماذا تنسف ذلك كله بيديها من خلال «التدخل» في المسرح الدموي الفالت والجنوني هذا؟!
لذلك (ربما) تبدو فرضيّة الحرب موازية لنفيها، إلاّ إذا أراد البعض (محقّاً) الإشارة الى أنّ في واشنطن مثلما الحال في تل أبيب، صنفا من أصحاب القرار، يضع المنطق في أسفل جدول أعماله، والقتال العسكري والسياسي في رأسه!