المعضلة المتأصّلة في نمط التفكير السياسي الإيراني، هي أن المعبّرين عنه والمبلّغين له والناطقين بفحواه، مثل وزير الخارجية محمد جواد ظريف، ينطلقون من أساسات أنوية شديدة الخصوصية ويفترضون أنها صحّ وحق. وأن الآخرين، كائناً مَن كانوا، وخصوصاً أهل الجوار العربي، ما عليهم سوى التسليم بهذه المناحة، وإلاّ تأكّد، أنهم في الجانب الغلط، من الدين والدنيا على حدّ سواء!
ومعضلة ظريف، أنه يقرأ بالمقلوب. وبدلاً من أن يسوّق بيانه بين أهله داخل إيران حيث تَراكَمَ الفشل فوق بعضه بعضاً، يذهب إلى الخارج (تبعاً لوظيفته) ويدلق كلاماً هو نفسه أوّل مَن يجب أن يعرف غرابته وقلّة المنطق والحصافة فيه.
ما يعرفه الإيرانيون وغير الإيرانيين، هو أن مشكلة ظريف داخلية قبل أن تكون في مكان بعيد أو قريب، عربي أو غير عربي. وأنه في الإجمال والعموميات، جزء من منظومة أساسية يقودها رئيسه الشيخ حسن روحاني، تتبنّى نهجاً مختلفاً عن ذلك الذي يدافع عنه (ظريف ما غيره) اليوم! وتلك ليست أحجية ولا حزّورة عصيّة على الحل، بل حقيقة سبق وأن انكشفت بوضوح إضافي، خلال التظاهرات الأخيرة، وما تلاها من ردح متبادل في شأن المسؤولين عنها، والأسباب التي أوصلت إليها.
ولم يمر الزمن الكفيل بالطمس بعد، على آخر ظواهر ذلك الردح. حيث وصل الأمر بالرئيس روحاني قبل ايام معدودة، إلى تحذير «المرشد» وأصحاب مسار تصدير «الثورة» وتثبيت الازدواجية الأمنية والعسكرية، والمتطلّعين دائماً إلى أدوار ومنصّات نفوذ أكبر من قدراتهم على حملها، ومن قدرة الدولة والمجتمع والاقتصاد وسعر صرف العملة، على موازنتها من دون خلل.. حذر هؤلاء من مصير مماثل لمصير الشاه الراحل في حال لم يغيّروا الأداء والبيان، داخلياً وخارجياً!
شفافية روحاني، كانت رديفة لتجرؤ الشيخ مهدي كروبي الموضوع في الإقامة الجبرية منذ سنوات، على تحميل قمّة السلطة الإيرانية، مسؤولية الأوضاع الكارثية التي أخرجت الشارع الإيراني من عقاله التوجيهي والأمني والإرشادي والتعبوي.. داعياً «المرشد» تحديداً، إلى «إصلاح الوضع وتسريع عملية إعادة ترتيب الأمور… وإلا ستواجه إيران كارثة عميقة في المستقبل القريب».
و«الوعظ» واضح في موقفَي ذينك الاثنين، وهما من كبار إيران. وهذا رديف لمصطلح «الدرس» الذي يتعيّن على أصحاب الشأن والقرار حفظه واستيعابه قبل نزول الفأس في الرأس! لكن الوزير الظريف اختار شيئاً آخر ليحكي عنه، وراح إلى السعودية ليتّهمها بأنها «تعاني ضعفاً في استيعاب الدروس» من الأحداث الجارية في المنطقة! وكأنه تلميذ شاطر لكنه مراوغ ويحتاج في بعض المواد إلى الغشّ والتزوير كي ينجح!
… ثم كأنه ضعيف في الجغرافيا! ولا يعرف أن السعودية «لم تدخل إلى المنطقة بإيعاز خاطئ»، بل هي أساس «المنطقة»! ومن «دخل» من خارجها عليها، هي إيران ومشروعها التخريبي الصاخب والصارخ في وضوحه وصلافته وأنويته.. وأن اليمن والعراق وسوريا ولبنان والبحرين والكويت، هي بلاد عربية وليست أعجمية.. وأن مَن يسعى فيها وبين أهلها هم من غير أهلها! وأن القول بأنه «لا يحق لأحد تقييد القدرة الدفاعية لإيران» صحيح في المبدأ لولا أن ظريف لا ينتبه أو لا يقرّ، أو لا يرى، أن تلك «القدرة الدفاعية» تبنيها بلاده على خراب جيرانها ودمار عمرانهم واستقرارهم! وأن بيروت ليست أصفهان! ودمشق ليست طهران! وصنعاء ليست مشهد! وبغداد ليست قمّ! والكويت ليست تبريز!.. وأن استراتيجية حزام النار في الخارج لمنعها من الاندلاع في الداخل لم تثمر مثلما تبيّن أخيراً! ومثلما كان الأمر قياساً صالحاً للاستخدام من قِبَل روحاني وكروبي للتحذير من سقوط النظام على الطريقة التي سقط بها نظام الشاه!
مشكلة القراءة بالمقلوب عند ظريف أخذته إلى الافتراض بأن روحاني وكروبي كانا يتحدّثان عن القيادة السعودية وليس عن «القيادة الإيرانية»! وكانا يطالبان حكّام دول الخليج العربي بتغيير سلوكهم وسياساتهم، وليس حكام منظومة «الولي الفقيه»، وإلاّ وقعت الكارثة! ثم أن مشكلة الضعف في الجغرافيا السياسية عند وزير خارجية إيران أخذته إلى الاستنتاج الخطأ: بدلاً من الاتعاظ وأخذ العِبَرْ من الفتن والكوارث والبلايا والمصائب التي سبّبها مشروع تصدير «الثورة» والاستحواذ والنفوذ و«القدرة الدفاعية» في بلاد العرب والمسلمين، قبل أن يرتد على إيران ذاتها، ذهب إلى اتهام السعوديين بما فيه، وأول ذلك «ضعف الاستيعاب»! يا حيف!