IMLebanon

في هذه الدنيا..

لم يخطئ الظن والافتراض والاعتقاد مَن ظنَّ وافترض واعتقدَ أنّ اعتماد السياسات الطويلة في زمن سريع هو مغامرة غالباً ما تكون خسرانة. وأن الارتكاز في الحاضر الى أشياء من الماضي (القريب) ليس سلفيّة حميدة بقدر ما هو تعبير عن قصور ذهني لا يسمح لأصحابه بالخروج من كتب التاريخ، ولا حتى الاتعاظ من صفحاته السوداء.

يبني أصحاب المشاريع الاستراتيجية الإحيائية والشمولية أداءهم على مرتكزات فكرية وأيديولوجيّة بائدة أو تكاد. ويعتمدون أساليب عالم مضى. ووسائل صارت صدئة وأكلها الهريان. ويفترضون أنّ الامتلاء الذاتي، المصاحب لمدّعي الأدوار العظيمة والكبيرة والخطيرة، يكفي عدّة للوصول الى الآخرين، وإلى جعل الأوهام المتضخّمة حقيقة وواقعاً!

في عصب «المشروع» الروسي أشياء من ذلك! وفي عصب «المشروع» الإيراني أشياء أكثر. وفي الأمرين معضلة الذات الطافحة والرسالية المتضخمة، مثلما فيهما إيغال في تجاهل هذا العالم وادعاء القدرة على الفتك به! أو تغيير ملامحه! أو ردّه الى عقود سابقة، كانت فيها الناس لا تزال تحبو على تقنيات ثورية في زمنها لكنها صارت تشبه لعب الأطفال في زماننا! وكانت فيها العقول الجمعية مأخوذة بالمثل وأدواتها التفكيريّة والكتابيّة وعاديات الأيام وحاجات العيش وشروطه ومتطلباته.. وكانت «الفلسفة» كثيرة والعلم قليل! والحروب كثيرة والمصالح ضامرة!.. كان الإعجاز الفنّي، في الرسم والموسيقى خصوصاً، صنواً لرحابة الوقت وقلّة وسائل الترفيه.. والترف!

كانت «فكرة» تولع حرباً! وكلمة تُشعل قارة! وكانت الأيديولوجيا بنت الفلسفة! اشتغلت هذه طويلاً في التفسير وجاءت تلك للتغيير.. وكاد العالم أن يفنى على وقع ذلك، الى أن تبيّن استحالة الجمع بين الأمرين: الحداثة والتقدم التقني والعلمي وانفتاح التواصل على مداه.. لا يمكن ذلك كله أن يسير الى جانب الرؤى الشمولية والخلاصية والقسرية والمعلّبة والموجّهة والمدّعية قدرات منسلّة من إرادة فوق بشرية!

الاصطدام كان حتمياً وسيبقى كذلك. وليست أحوال هذه الدنيا، في كل تفاصيلها وعمومياتها سوى إعلان لحظوي دقائقي ساعاتي يومي عن إنتصار البراغماتية على القوالب الجاهزة والجامدة.. حتى لو كانت هذه (على ما هي عليه فعلياً اليوم) مربوطة من جهة باجتهادات النصّ الديني، ومن جهة ثانية بطبول القوميات وأمجادها الغابرة!

ركائز «المشروع» الإيراني هي ذاتها مصادر تدميره! وركائز «المشروع» الروسي هي ذاتها كوابحه وأسباب مأزقه المقفل! ولا يعني الهلع «العالمي» الراهن شيئاً سوى التعبير عن ظواهر ذلك الاصطدام وغباره، بين الحداثة و«الرجعية»! وبين سيرورة الطبيعة ومحاولات كسرها أو إعاقتها! وبين العولمة الحتمية ومحاولات صدّها بحدود وطنية أو قومية، أو بالتطاول الفظّ عليها!