Site icon IMLebanon

في «التوقيت».. والإذعان!

 

 

تصل متأخرة دائماً عن موعدها، السياسة الإيرانية، حتى صارت عادةً مألوفة عند أصحابها برغم تكرار الفشل.. وكأنّها لعبة تجريبية وليست حاسمة، ويُراهن لاعبها على الفوز ولو لمرّة واحدة ليطمئنّ أخيراً إلى أن مكابرته وعناده لم يذهبا هباءً.

 

من قرار وقف الحرب مع العراق في 1988 وتجرّع كأس السمّ، إلى «المشروع النووي»، إلى الراهن اليمني والسوري تحديداً! سياق واحد لا يؤكّد سوى افتقاد صانع القرار الإيراني ملكة «التوقيت الصح» تبعاً لافتقاده المرونة الذهنية التي تعني أول ما تعنيه أخذ الواقع على ما هو عليه وتصغير الأحلام والأوهام تبعاً له وليس العكس!

 

وهذه الخاصيّة تعني عملياً، أن صانع القرار الإيراني يعرف نصف الحكاية: يعرف كيف يتقّدم ويهجم لكن لا يعرف كيف يتراجع و«مَتَى» يتراجع. وهذا يُضاف إلى الاستنتاج الكئيب بأن ذلك الصانع لا «يستوعب» سوى لغة القوة! وفيها على ما تدلّ الواقعات الراهنات المتفجرات الملتهبات في سوريا واليمن، شواهد مخزية، عدا عن اشتمالها على حقيقة موازية هي أن «الاحترام» لهذا المعطى لا يبرز ويظهر سوى أمام «الأقوى»! ولا ينزوي ويُرمى جانباً سوى أمام «الأضعف»!

 

.. قبل الاضطرار إلى تجرّع كأس الهزيمة في الحرب المريرة مع العراق التي استمرت ثماني سنوات وكلّفت أثماناً أسطورية بشرياً وماديّاً، طُرحت على طهران وعلى فترات متلاحقة ومن قبل وسطاء كُثُر، وبعضهم من أركان العرب وقادتهم، صيغ عدّة لوقف الحرب بما يحفظ ماء الوجه! ويُوقف نزف الثروات والأرواح «بين المسلمين»! ويُعيد الأمور إلى سابق عهدها الحدودي برّاً وبحراً! وأكثر من ذلك: عُرِضت أموال طائلة كتعويض عن الخسائر المُسجّلة! وكبادرة حُسْن نيّة باتجاه نظام «الجمهورية الاسلامية».. إلخ. لكنّ ذلك كلّه راح معْساً تحت أقدام الغريزة القتالية والثأرية، والأدلجة الساعية إلى «تثوير» المنطقة برمّتها! و«طرد» الأغراب منها! ورمي الصهاينة في البحر! وإعادة الفلسطينيين إلى أرضهم السليبة! لكن بعد أن استمرت الحرب وتعاظم النزف واستحال «الانتصار»، عاد صاحب القرار في طهران إلى الأرض وأقرّ بالهزيمة التامّة!

 

.. وبعد أن انكشف مشروع القنبلة النووية تكرّرت «الحدّوتة» نفسها: عرض الأوروبيون على طهران بدائل سلمية موثوقة مع رُزمة حوافز مالية وتجارية وسياسية.. لكنّ الأمر رُفض لصالح متابعة «التجربة». فكان ما كان من أثمان وعقوبات ومناورات وأزمات وجموحات (خارجية) وصولاً إلى «الاتفاق» مع الدول الست الكبرى الذي عنى في أساسه استحالة انضمام إيران إلى النادي النووي! وانكسار طموحها هذا.. وصولاً اليوم إلى تمسّكها هي بهذه «الهزيمة» باعتبارها انتصاراً!

 

أي أنها لم تخسر المشروع وتطيّر الأثمان في الهواء، فحسب.. بل تحوّل الأمر إلى نقطة انطلاق لفلش كل «قضاياها» الداخلية والخارجية على الطاولة دفعة واحدة!

 

في سوريا، قبل الآن بقليل، لم ترضَ بأقل من «انتصار تام». ولم تقبل (حرفياً!) بأي صيغة وسطية للحل! ولم تجد أن سورياً واحداً من أهل المعارضة «يستحق» أي شيء إلا القتل والسحل والنفي والتهجير ومصادرة الرزق! ومثل ذلك في اليمن: دفعت بأتباعها إلى الذروة «وكل» السلطة! و«كل» الأرض! و«كل» القرار!

 

اليوم خبر آخر: تنكسر في سوريا على الحامي ومن دون ضوابط! ويتجمّع عليها «الحليف» والعدو! وتتعرّض بالتفصيل الممل لحرب إلغاء شبيهة (تماماً!) بالحرب التي شنّتها على أهل سوريا أصحاب الأرض والتاريخ! فإذا بها تكتشف مجدداً فضائل «التسويات» الوسطية! وتقبل مُرغمة ومُذعنة وتحت النار الارتداد إلى الخلف والانحناء! بل تنخرط، على ما روى موقع «إيلاف» المرموق والموثوق، في محادثات ومفاوضات مع الإسرائيليين في عمّان لتؤكد لهم (ما يعرفه كثيرون أصلاً!) عدم وجود نيّات عدائية تجاههم! وطبعاً، إسرائيل أخذت ولم تقبل بطيّ الصفحة، بل أعلنت (وتنفّذ إعلانها يومياً وليلياً!!) بأنها لن تقبل بـ «أي وجود» إيراني في سوريا كلها، وليس في جنوبها فقط!

 

.. واليوم خبر آخر في اليمن أيضاً: حيث تبلّغ أركان الترويكا الأوروبية المفاوضة مع طهران بعد انسحاب الأميركيين من الاتفاق النووي، بأن مفاوضهم الإيراني سيعمل على دفع حلفائه الحوثيين إلى العودة نحو التفاوض.. في وقت يلملم هؤلاء الحلفاء مخلّفاتهم في عقر دارهم، ويستعدّون لشدّ الرحال هرباً من الهزيمة النكراء الآتية بوضوح ليزَرِي!

 

سياسة كل شيء أو لا شيء، تُوصل إلى لا شيء حُكماً وحتماً.. طالما أنها تُفقد أصحابها خاصية التوقيت الصح! والتواضع أمام الحقائق بدلاً من العمل على تزييفها! وتكتشف تهافُتهم المخزي إزاء معادلة التجّرؤ على «الأضعف»، والإذعان أمام «الأقوى»!