كان في خزانة كل سياسي لبناني، طقم أبيض، Blanc Cassé. الموارنة، من قبيل “لعل وعسى”. المسلمون، من قبيل “ويخلق الله ما لا تعلمون”. والباقون من قبيل الإتيكيت. والطقم الأبيض، Blanc Cassé، كان العلامة الأولى في يوم الاستقلال، الموافق عادة 22 تشرين الثاني. الرؤساء الثلاثة بالبذلة الرسمية، والطامحون إليها يرتدونها على سبيل التجربة، والصورة التذكارية، والوقوف للنشيد الوطني: كلنا للوطن. تقريباً.
مرّ 22 تشرين الثاني الماضي من دون عرض للأطقم أو الدبابات. الطائرات العسكرية أُقعدت من زمان، والـ “هوكر هانتر” صارت قطعة متحفية تُعرض في بريطانيا مع طائرات الحرب العالمية الثانية وأوسمة المحاربين القدامى في يوم الهدنة. المحزن ليس غياب الاستقلال في لبنان، فقد كان هذا التخوّف قائماً على الدوام. لكن حضور الأطقم البيض وعزف النشيد الوطني، كان فيهما شيء من الإيهام اللذيذ: تعا ولا تجي! يسمّي الإنكليز ذلك Keeping up Appearances. الحفاظ على المظاهر. إاخفاء الطلاق والشجار عن الغرباء.
المحزن، حقاً، هو وفاة الاستقلال في بلاد العرب. سوريا والعراق في عُهدة جميع الأمم، كبرى وإقليمية، وليبيا في رعاية الفوضى والإهمال والتجاهل، واليمن بين قوسين مهلهلين، والبريطانيون يُعلنون، بعد نصف قرن، أنهم عائدون إلى “شرق السويس”. هذه المرة من البحرين، وليس من “الإمارات المتصالحة”.
كانت سوريا تنشد دائماً للواء السليب، الإسكندرون، أرض روائيّها المؤلم، حنا مينه، فأصبح نصف سوريا في تركيا، حيث تُدار الحرب الجوية والسياسية ووحول الخيام في الشتاء. والعراق الذي كان يلحّ على خروج الأميركيين، يوجّه إليهم دعوة رسمية للعودة: حضرة السادة الأفاضل، بنتاغون أميركا، المعروف سابقاً بالاحتلال! وعلى الأرض، القائد قاسم سليماني يمشّط أرض المعركة بالصوَر الملوّنة. والإيزيديّون، بعد المسيحيين، صاروا في حِمى كردستان العراق.انسَ أنه كان أرض الأديان والعقائد. ولا ينفعك – أو حتى يسلّيك – أن تعيد قراءة أمين معلوف عن المندائيين. انسَ. تحوّل كل شيء إلى أدب، كما كان يقول زميله غبرييل غارسيا ماركيز. “غابو” للمحبين.
نحن، على رغم افتقاد الأطقم البيض، Blanc Cassé، تعوّدنا غياب الاستقلال. عوّدنا إياه الأشقاء والإخوة العرب، والأشقاء والإخوة الآخرون شرقاً ومشرقاًً. في عام واحد جاء الرئيس محمود أحمدي نجاد إلى الجنوب، والرئيس رجب طيب أردوغان إلى عكار. مجرد مراجعة للأصول، بمعنى المستندات، والوثائق. لكن الوجودين الإيراني والتركي في سوريا، أبعد من أن يكونا مسألة طبيعية في بلد صغير اعتاد أن يُعطي الرياح والعواصف أسماء تلطيفية وأوصافاًً تجميلية. هنا، الاستقلال العربي صار مسألة وجودية في بلاد الأمويين والعباسيين. وهنا تمتدّ “داعش” من الرقّة إلى الموصل، تريد، قبل أي شيء، أن تفرض على الإيزيديين إلغاء تحريم الخسّ واللون الأزرق. لماذا يحرِّمانهما؟ ألم نقُل لكم إن أرض العراق كانت أرض جميع المعتقدات؟ لا خسّ ولا لون أزرق.
شاعت نكتة عنصرية يوم استقلال الكونغو تقول إنه عندما علم أهل البلاد بأن الاستقلال آت، خرجوا جميعاً إلى المطار لاستقباله. كان الكونغو معرضاً للهمجيات والمُضحكات. الأمم المتحدة تحاول عبثاً صون وحدته. والدول الاستعمارية السابقة تمزّقه في الخفاء من خلال المحليين. وعملاء مُعلَنون صُفقاء مثل مويس تشومبي يقسّمونه. وشركة “الاونيون مينيير” في كاتانغا تنهب مناجمه ومعادنه. وفي كل مكان خراب وموت. أعرف كم هو ذلك جارح، لكنني أعرف أيضاً كم هو حقيقي. قبل أسبوعين أعلن محافظ المصرف المركزي الليبي إفلاس الدولة رسمياً. لقد نهبوا كل فِلس وكل قطعة ذهب. وها هم يتقاتلون جميعاً حول مصافي النفط، كما تقاتلت “داعش” في سوريا. وما بقي نفط ولا ماء في اليمن: الأول للفساد، والثاني لسقي القات. شيء من الكونغو في كل مكان، ولا بقايا للاستقلال.
في “القلعة” يحاول بطل فرانز كافكا أن يُعلّم القرويين أن حقوق الإنسان مسألة تستحق أن يُقاتَل من أجلها، وأن قانون القلعة ليس مقدساًً. يحاول أن يفتح أعينهم على أن “الذين يرتعدون مع كل دَقّة على الباب، لا يمكن أن يروا الأشياء على سويّتها”. الشعوب من دون استقلال وحريّة لا تعود لها كرامة إنسانية. ومَن كان من دون كرامة إنسانية لا يمكن أن يعيش حياته في سويّتها. تتنوّع عليه العبوديات وتتنافس، فيما تغيب نداءات الحرية واحترام النفس. وتتفّه العروض والحلول. ويفقُد خياره إلا بين السيئ والأقلّ فظاعة. لأنه ليس للحرية سوى تفسير واحد ومنطق واحد – ولا للعبودية أيضاً. عندما يسقط الفكر السياسي، يهبط كل شيء إلى الحضيض أو القُعر، ويشتهي الإنسان حياة الحيوان. ويَحسدُ أهل الغاب على قوانينهم لأنهم لا يعذّبون بعضهم بعضاً ولا يجوّعونهم.
كان معمر القذافي يخفض الدينار 50% كل عام لكي يحدّ من سفر الليبيين إلى الخارج، فيعودون ومعهم جرثومة الحرية والحياة. ولم يكن يعرض عليهم موازنة لئلا يتساءلوا أين ذهب الباقي. الآن كل المصرف المركزي مُفلس. هل هذا قدَر الشعوب العربية؟ إما النهب الكلّي وإما النهب الجزئي؟ لا. ليس هذا قدراً. هذا خطٌّ مرحلي أنتجته عقود من العُقم الفكري وترصيع الاستبداد وتلميع الولاءات للخارج بأغلفة من السيلوفان. قبل أن يعقد جمال عبد الناصر معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفياتي اشترط على موسكو أن يحلّ الحزب الشيوعي المصري نفسه. ولاء واحد، لا ولاءان. والآن يقول كريم مروة، مؤرّخ اليسار العربي، أن سبب تراجع الشيوعية العربية كان إصرار موسكو على إبقاء القرار عندها. حتى فكر الحزب الواحد لا يعيش من دون حرية. ولا تنمو في العتم سوى الطحالب.
ما يبدو لنا عودة إلى العصور الدينية هو أيضاً صراع طبقي وسياسي تفجَّر في أشكال فظائعية. وصراع اجتماعي. وصراع إقليمي دولي: الروس يريدون استعادة الدور الموازي. وتركيا تريد استعادة الآستانة إلى الولايات. وإيران تريد استعادة أطراف الإمبراطورية. حاوِل أن تبحث عن الحقيقة دائماً على هامش القضايا. كريستوفر كولومبوس لم يكن أبداً يريد اكتشاف العالم الجديد. كان يريد طريقاً تجارية إلى الشرق تمكِّنه من جمع أموال كافية لشن حملة صليبية أخرى في سبيل القدس(1). كان كاثوليكياً متديّناً، تعلّم الملاحة في البحار العاتية والعالية، فقط من أجل أن يموّل لملكته، إيزابيلا، حملة القدس. اكتشاف أميركا مصادفة. لوتو.
نحن مجرد منطقة على الهامش، فيما يتغيّر جوهر عالم جديد لا علاقة لنا بديناميكياته. ما كنا نسمّيه في الماضي “العرق الأصفر”، أو آسيا التي يبحث عنها كولومبوس، حلّ الآن محل أميركا كأول اقتصاد على الكوكب. الصين هي الأولى، والتنّين يهزّ ذيله فرحاً فيما الدب الروسي يزمجر بلا جدوى. حاول سياسي أممي يعمل في الديبلوماسية والحروب منذ 55 عاماً أن يقول لنا، خطياً وشفهياً، إن سوريا مهدّدة بأن تصبح صومال آخر. ميليشيات وجمهوريات وخرائب. انقضّ الزملاء العرب على الأخضر الإبرهيمي، واستمرت الأمة في الإصغاء إلى البصّارين. تسطيح القضايا مريح. النتائج سيّئة. هناك قضايا في الأرض لا يجوز أن تُترك إلا للفكر العالي وأعماق الثقافة والتاريخ. الرئاسة والاستقلال ليسا عرضاً تتقدّمه العنزة الخفيفة الظلّ. ولا الرئاسة نادٍ له مفاتيح ومدير يحدّد شروط العضوية. هذه أولى مسائل الوجود وعناوين الاستقلال. أهم عناوين البقاء في ملعب التفتت والتفكك وسرى الغربان.
هذه ليست معركة مسيحيّي الشرق والأقليات وعودة كولومبوس إلى القدس. هذه الحرب الكبرى من أجل دول التنوّع وشرعة الحياة. من أوستراليا إلى الموصل. وهي حرب يخوضها المفكّرون، والمُلهمون من كل الأديان والأعراق، وخصوصاً من الديانات الكبرى. فإننا مُقبلون مع تقدّم الصين على الجميع واختيار أوروبا لتحويل الكنائس إلى مطاعم، على عالم مناقض أو نقيض. ومن يحتاج إلى حماية حقيقية الآن هم الأكثريات، أو بالأحرى، الجميع، لأن البربرية لا تفرّق ولا تميّز.
ويجب أن نكفّ عن طرح مسألة الرئاسة على أنها مبارزة بين سيوف. إنها مواجهة بين الوجود والعدم. حرب الأفضل لا الأقوى، لأننا في القوة مجرد مجموعات بائسة هاربة من كل مكان. البقاء، كما كان دائماً، هو للحكمة، لا للحاكم. أعيدوا قراءة لوحة نهر الكلب. القوى الصفراء لا تترك سوى الفكر. ونحن – جميعاًً – على الحافّة بين حافّتين. نريد من يُعيدنا إلى ديار الفكر وأرض الحكمة. من يدرك أن أي مفكرة سوف تكون الختام. وفي أي حال، كل عام وأنتم بخير. وفي الناس المسرّة.