هل هناك (سيناريو واحد) في كيف تنتهي الحروب الأهلية؟ أم أن هناك عدداً من السيناريوهات، يتدخل في حسم نتائجها عدد آخر من العوامل المتغيرة؟ وهل تاريخ الحروب الأهلية يسعفنا في رسم، ولو خطوط عريضة وإشارات، نستطيع معها التكهن بنتائج محددة لتلك الحروب الأهلية التي تخاض اليوم في فضائنا العربي؟ تلك أسئلة اجتهد كثيرون لمحاولة الإجابة عنها في السابق. فالحروب الأهلية في العصر الحديث كثيرة، ونتائجها مختلفة، وخضعت لدراسات علمية مكثفة، من الحرب الأهلية في اليونان كمثال، إلى الحرب الأهلية الإسبانية، إلى الحرب الأهلية في لبنان، إلى رواندا وباكستان وإندونيسيا، بل وحتى الصين وعدد آخر من حروب (الأهل) في القرن العشرين، وأخيراً في سوريا واليمن وليبيا والعراق في القرن الحادي والعشرين، وما ذكرت ليست الوحيدة في التاريخ الإنساني، هناك الكثير منها منذ فجر التاريخ، وحتى على الأقل الحرب الأهلية الأميركية. إنما السؤال ما هي العناصر الأشمل والمشتركة والجوهرية لتلك الحروب، خصوصاً في العصر الحديث؟ إنها في الغالب تشمل عدداً من العناصر المشتركة، منها خمسة عوامل رئيسية، تشكل قاعدة عامة لظاهرة الحروب الأهلية، من بين عوامل أخرى ثانوية.
أولاً: أن الحروب الأهلية تبدأ شرراً صغيراً في النطاق المحلي، وما أن تطول نسبياً في الزمن، وهو أمر لا مفر منه، حتى تصبح دولية، أو على الأقل إقليمية، في الحرب الأهلية الإسبانية، كانت إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية بجانب فرنسيسكو فرنكو (القومي المنشق على الحكومة اليسارية المنتخبة) إلى درجة أن الإيطاليين نقلوا بطائراتهم خمسين ألف جندي مغربي إلى إسبانيا دعماً لفرنكو، كما دعمه الكثير من الحكومات القمعية في أوروبا وقتها، على مقلب آخر دعم جوزيف ستالين (الاتحاد السوفياتي) وغيره من الحكومات، تحالف اليسار الإسباني (الديمقراطيين) باطناً وظاهراً، من المعدات الحربية، وخبراء عسكريين، إلى الاشتراك في المعارك، وكذلك حصل التدخل غير المباشر من عدد من الشعوب، إلى درجة أن ثمانمائة أميركي قتلوا في الصراع على الساحة الإسبانية، من جملة ثلاثة آلاف متطوع (القتلى أكثر من عدد قتلى الجيش الأميركي في حملة عام 2003 في العراق) رغم حياد الولايات المتحدة وقتها، وهكذا انتصر لفريق يوناني في الحرب الأهلية مباشرة بعد انتهاء الحرب العظمى الثانية مجموعة من الحكومات والأحزاب، وهو الجيش اليوناني المدعوم من الغرب، كما انتصر آخرون للفريق المضاد، الجيش اليوناني الديمقراطي الذي ناصرته عدد من دول أوروبا الشرقية، في حرب أهلية يونانية ضروس، أما في لبنان، فنجد أن التدخل الخارجي بدا واضحاً، فقد ساعدت إسرائيل فريقاً، وساعد بعض العرب فرقاء آخرين، بل انقسم العرب، فقد أمد نظام صدام حسين فريقاً بالمال والسلاح، كما أمد خصمه السياسي والآيديولوجي، حافظ الأسد فريقاً آخر بالمال والسلاح والرجال، وليس الصراع في اليمن أو سوريا أو العراق أو ليبيا اليوم خارجاً عن ذلك السياق العام (التدخل الإقليمي والدولي) فحرب (الأجانب) في كل من سوريا واليمن والعراق وليبيا ليس جديداً عن طبيعة الحروب الأهلية.
ثانياً: الحرب الأهلية تخلف دماراً هائلاً في المدن والقرى والأرياف، وتتسم بالضراوة والعنف والنتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمرة، كما تُخلف مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمختفين قسراً، والقبور الجماعية، حصل ذلك في إسبانيا واليونان ولبنان، ويحصل اليوم في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا، فهناك عشرات المدن التي هدمت على رؤوس سكانها، وهناك ملايين من المُهجرين والمشردين، والكثير من مظاهر المرض والجوع، وعشرات من القبور الجماعية التي سوف تبقى مختفية لعشرات من السنوات المقبلة، وتُكتشف على مر العقود. ويظهر أيضاً عدد من الجماعات (المنفلتة) القابلة للتأجير لمناصرة فريق أو آخر، كما يقوم «حزب الله» اليوم في كل من سوريا واليمن، وجماعات عراقية مسلحة ومبتزة.
ثالثاً: الحروب الأهلية تترك ندوباً غائرة على وجه المجتمع الذي تحدث فيه، وتبقى هذه الندوب لأجيال مقبلة، تحمل الكراهية والعداء والحقد والعنصرية بين مكونات المجتمع، وما أن تسقط الآليات الإكراهية للدولة بسبب تفسخها نتيجة الحرب الأهلية حتى يُخرج الناس أسوأ ما في النفس البشرية، فيصبح القتل على الهوية، ويحتل آخرون منازل الغير، وينهب آخرون المخازن، وتضعف أو تختفي القيم الإيجابية والإنسانية، وتتفتت العلاقات الأسرية، وتسود قيم الغابة والحيوانية لدى شرائح واسعة من المجتمع، وتستشري الثارات بين المواطنين، بل وتبقى لفترة طويلة من الزمن قابعة في نفسية الأفراد والجماعات، وحتى تُورث، سواء كانت ثارات من المنتصر ضد المهزوم، أو من المهزوم ضد المنتصر، أو ثارات بين القوى الاجتماعية المختلفة المتصارعة، يصبح بعدها النسيج الاجتماعي هشاً قابلاً للعطب في أي وقت وعلى أهون سبب.
رابعاً: يلعب (الدين) و(الطائفة) و(الحزب) أدواراً مهمة في الصراع، ففريق يتحزم بالدين، وأنه المدافع عنه ضد الفريق الآخر الذي يُتهم في الغالب بأنه (لا ديني)، رغم أن معظم الصراعات من المفاهيم الدينية (المذهب)، وآخر يتحزم بالطائفة، وثالث بالحزب في وقت من الأوقات يلعب الثلاثة دوراً مشتركاً، هكذا كان فرنكو مثلاً يرى أنه يدافع عن (الكاثوليكية) ويحمل لواء المسيحية المهددة، كما حمل «حزب الله» في لبنان أول شعارات تدخله في سوريا على أساس الدفاع (عن المراقد)، أما إيران فتتدخل لأن الحرب في سوريا من أهم مقدمات (ظهور الإمام الغائب)!، وهذا ما يحدث في اليمن، فالحوثي يغطي طموحه السياسي في الهيمنة على اليمن بأنهم (أنصار الله)، بالطبع يعني أن الفريق الآخر من (أنصار الشيطان)!
خامساً: تفقد الدولة كل عناصر استقلالها، فقد اضطر فرنكو مثلاً أن يرسل مئات المتطوعين من الإسبان للحرب بجانب قوات أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية، وقبول الكثير من (الخبراء) في مؤسساتها المختلفة، بل والاعتماد عليهم، ويفقد كل من العراق اليوم وسوريا واليمن وليبيا، قدراً من (السيادة) التي كانت تتمتع بها تلك البلدان قبل اندلاع الحروب الأهلية. كما أن هذه السيادة قد ترشح للزوال، فبقاء الحكم السوري مرهون برضا موسكو، كما أن بقاء الحكم في العراق مرهون برضا طهران، ويفقد لبنان مخبر الدولة، وإن بقي مظهرها، فقرار الحرب والسلام مع الآخرين مرهون بنائب الفقيه في الضاحية!
هذه العوامل الخمسة هي ما يجمع تشخيص الحروب الأهلية، ولكن ما هي النتائج المحتملة على المدى المتوسط؟ هنا ما يجب أن نتوقع، فأخذاً بتجارب كثيرة سابقة، وما تفرضه المستجدات التي تعمل آلياتها على إفراز نتائج محتملة في المستقبل، فإنه من الواضح أنه مهما طال الوقت، فإن التيارات المضادة لتحرر الشعوب واستقلالها سوف تفقد قدرتها على البقاء. لقد حكم فرنكو أربعين عاماً، ثم عادت إسبانيا لتعظيم آليات الديمقراطية وتعددية الأحزاب والمنافسة المفتوحة بين المختلفين السياسيين سلمياً، وهكذا حصل في اليونان في وقت أقصر، وذابت الطبقة السياسية القديمة في لبنان، وأصبح رؤساء الميليشيات في الغالب هم الحكام الجدد! الذين يعظمون الدستور وصناديق الانتخاب علناً، ويمارسون الطائفية وتعطيل الدولة عملياً، بسبب الظروف الطائفية في ذلك البلد. الدروس الأكيدة في نتاج الحروب الأهلية تؤكد حقيقتين؛ الأولى بمجرد نشوب الحرب الأهلية، فإن الأمور لا تعود أدراجها من جديد، وتفقد الدولة، حتى لو عادت استقلالها الحقيقي، والثاني أن أياً من الدول الخارجية التي تشارك في حرب أهلية بعيدة عنها تخرج بخفي حنين، أي خاسرة لا محالة. قد يطول الوقت لإنهاء الحروب الأهلية في منطقتنا، ولكن النتيجة (للعقلاء فقط) هي الدرسان السابقان!
آخر الكلام:
هناك على الإنترنت موضوع بعنوان (كيف تشعل حرباً أهلية في تسع خطوات) أقتطف منها: (مهما كانت الخلافات السياسية، فعليك بإضافة العامل الديني! وتحدث عن وحشية الأعداء، وقم بأفظع مما يفعلونه، ولا تصارح الشعب بحقيقة أهدافك، وعليك أن تطلق شرارة الحرب، والآخرون سوف يكملون المشوار… إلى آخره من التوصيات الشيطانية)!