في الصورة البرّانية والشكلية أنه بدلاً من أن “تخرج” إيران من سوريا، تخرج أميركا!
الخلاصة حادّة لكنها خادعة! ولا تخفّف من حدّتها التفسيرات المتطايرة في كل اتجاه للخطوة الأميركية وأبعادها وتداعياتها على الأكراد خصوصاً وعموم المثلث العراقي – السوري – اللبناني الموصوف في الأجندة التصديرية الإيرانية بأنه لبّ الهلال المشتهى الممتد من بحر قزوين إلى شواطئ البحر المتوسط!
لكن برغم الاحتفالات الممانعة (الخفرة هذه المرة في واقع الحال!) فإن أمر الانسحاب الأميركي “يتزامن” مع تسجيل تراجعات إيرانية مُعتبرة لم تكن واردة قبل فترة وجيزة، أتعلق ذلك بالاتفاق اليمني في السويد الذي قضى بإخراج الحوثيين من الحديدة والموانئ الرئيسية المطلّة على البحر الأحمر، أم بالتخلّي عن شرط توزير رمز “الحشد الشعبي”، الإيراني الرعاية، فالح الفيّاض في الداخلية العراقية. أم بإعطاء “الإذن” في بيروت لإقفال صفحة ما يُسمّى توزير النواب الستّة وما سُمِّي “اللقاء التشاوري”.. أم بالاستمرار في مقاربة القرار 1701 باعتباره عنواناً تهدوياً سلمياً يُناقض لعلعة الصوت باتجاه الصهاينة والسعي إلى اختراقهم وتفطيسهم! ويثبت معادلة ربط الجبهتين الجنوبية اللبنانية والجولانية السورية بحبل جليدي وليس العكس. مثلما يثبت المنطق القائل بأن الاستجابة للمطلب الإسرائيلي بابتعاد إيران وأدواتها عن حدود الجولان إلى حدود حمص لا يمكن له إلاّ أن يُستتبع تلقائياً وعفوياً في الجانب اللبناني وإن بطريقة أخرى عمادها ترسيخ الستاتيكو القائم وليس نسفه!
وهذه (مجدداً) إشارات ودلالات على إنكفاء إيراني واضح برغم الدربكة الإعلامية “الانتصارية” المألوفة.. لكن في مقابل ذلك هناك مَن يعطي الأمر برمّته أبعاداً روسية أكثر من أبعاده الإيرانية الصرفة.. بحيث أن حديثاً معقّداً يدور عن “صفقة” تبادل أراضٍ ونفوذ تطال سوريا والعراق أساساً، وقوامها تثبيت الحضور الروسي في الأولى والحضور الأميركي في الثانية.. وأن إيران في المكانين واحدة من أبرز ضحايا هذا التقاطع الدولي الكبير، وأن انكفاءها فيهما وفي محطات انتشارها ونفوذها الأخرى، أي اليمن ولبنان، يتم تحت وطأة العقوبات والجدّية الأميركية في متابعتها ثم تعبيراً عن التيقّن من أن موسكو في مكان آخر تماماً تتلاقى فيه مع واشنطن على ضرب الإرهاب الداعشي مرحلياً.. وعلى “معالجة” الحالة الإسلاموية التي بدأت مع “الثورة” الإيرانية قبل أربعة عقود، استراتيجياً!
تثبيت “الحضور” الروسي في سوريا يعني في مكان ما تسهيل الحضور التركي من الزاوية التي تهمّ أنقرة وتتعلق بالهمّ الكردي. ويعني في مكان آخر زيادة طمأنة إسرائيل إلى حفظ “أمنها” على الجبهة الشمالية (اللبنانية – السورية).. ويعني التطنيش (أميركياً) عن الانقلاب على اتفاق سوتشي الخاص بقصّة اللجنة الدستورية وعلى حساب المعارضة السورية (كل المعارضة!).. ثم يعني مقاربة النفوذ الإيراني وفق سياقات تقليصية، وليست تصاعدية. وبانصياع من طهران وليس بمكابرة يمكن أن تكون انتحارية وغير مألوفة في كل حال، في أداء الإيرانيين الذين يعرفون التمييز بين الجدّ والهزل! ويعرفون راهناً أن “القرار” المتّخذ في شأن “إعادتهم” إلى حدودهم غير مسبوق في جدّيته! ولا يحتاج إلى قاعدة في التنف أو في غيرها لتنفيذه! ولا تنفع في محاولة مواجهته الأساليب التي اتبعت سابقاً من خلال “المقاومة” في العراق والتمدّد عبر “الحرس الثوري” وملحقاته في سوريا و”حزب الله” في لبنان وصولاً إلى بني حوث في اليمن! وما تفرّع عن تلك السياقات إرهاباً وتخريباً ومحاولات ميدانية في الخليج العربي وغيره من جنوب شرق آسيا إلى أميركا اللاتينية!
تتابع إدارة ترامب حربها الذكية على إيران وفق معادلة “صفر أكلاف” عليها.. وانسحابها الميداني من المشهد السوري يدخل في ذلك السياق ولا يكسره! خصوصاً وأن الجميع يعرف بأن الألفي جندي أميركي المطلوب سحبهم من شرق سوريا ليسوا هم “حرّاس” وزن وثقل وتأثير الدولة الأقوى في العالم (وفي التاريخ!) ولا تعني “إعادتهم” إلى بلادهم نكوصاً عن القرار الاستراتيجي في شأن إيران.. بل الحاصل (إذا صحّ حديث الصفقة أو لم يصحّ) هو أن واشنطن تذهب من شرق سوريا وفي مخيالها الذهاب إلى شرق العراق! واستعادة بلاد الرافدين من سطوة النفوذ الإيراني شبه الاحادي! ووفق سياق أعلى هو “إستعادة” إيران نفسها من “غيبة” طالت على مدى أربعة عقود!
.. بهذا المعنى يمكن أن يُقبل الكلام القائل بأن الكل منهزم في هذه المحن الفظيعة وأول المهزومين هي إيران التي كلّف جموحها “الثوري” المنطقة وشعوبها الويلات والكوارث والفظاعات! وبدلاً من “تحريرها” من “الغزاة الصهاينة” في رقعة واحدة، تمزقت وتتمزق رُقعاً وقطعاً منكوبة ومبتلية ومسلوبة القرار والإرادة من قِبَل “غزاة” متعددي الجنسيات والأوصاف والأجندات!
صالات أفراح الممانعة تصدح على الطالع والنازل، لكن على ماذا تدور الأناشيد الانتصارية هذه المرة؟! على تحرير القدس وإعادة النازحين واللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم؟! أم على توحيد سوريا وإعادة الملايين من أهلها إليها؟! أم على انتهاء “النفوذ” الأجنبي في دنيا العرب والمسلمين؟! أم على فوائض الرفاه والتنمية والعلوم والثروات في إيران نفسها؟! أم على ماذا يا فطاحل الانتصارات و”ممانعات” آخر زمن؟!
علي نون