لا تتأسس الدولة بعقد اجتماعي ولا بمؤتمر تأسيسي. الدولة قدر. هي موجودة وحسب. يتقرر كل شيء في إطارها، إذا أريد تفادي الحرب الأهلية. كل محاولة لإعادة تأسيس الدولة هي وصفة لحرب أهلية. تنشأ الدولة بالغلبة. ربما تنشأ بإرادة خارجية، وهذه نوع من الغلبة؛ أو تنشأ بإرادة داخلية، إذا تغلب فريق على الآخرين. لم يحدث في التاريخ أن نشأت دولة بإرادة أبنائها، كل أبنائها، كدولة عقد اجتماعي. لا يجتمع الناس لتشكيل عقد اجتماعي وأهل البيعة، أي أهل العقد والحل في التاريخ الإسلامي وهم. تفرض الدولة على الناس، وعليهم تدبير أمورهم بعد ذلك. بعد مرور الزمن يقبل الناس الأمر الواقع، يقررون العيش المشترك؛ وعلى أساس ذلك تصير الدولة شرعية، أي يرضى عنها أبناؤها، أو يرضخون لها. حتى الرضوخ يكون أحياناً نوعاً من القبول. ما لم يحدث القبول بالرضى تبقى الدولة غير شرعية.
الشرعية تتطلب السياسة. لذلك قيل عن الدولة انها مجال السياسة، مجال التسويات. ليس في النظام الدولي ما هو أكثر رسوخاً من حدود الدول. وذلك تقرر في مؤتمر وستفاليا في العام 1648، بعد ان أنهكت الحروب الدينية أوروبا. ورثنا دولنا بعد سايكس ـ بيكو، أي بعد حرب عالمية؛ تهتز الحدود عادة بعد الحروب العالمية. ولا حيلة لتجاوز هذه الحدود الموروثة إلا بالقبول بها، لأن التخلي عنها سوف يقود إلى الأسوأ، إلى الدولة الفاشلة، وربما إلى المجتمع الفاشل. بقاء الدولة مع الشرعية، أي القبول بها هو الذي يؤدي إلى نشوء المجتمع. سواء كان المجتمع موحداً إثنياً أو طائفياً، أو غير ذلك (وغالباً ما يكون غير ذلك) فإنه مضطر للتعايش في إطار الدولة، في إطار الحدود الجغرافية المرسومة لها؛ وذلك مرهون بممارسة السياسة، وهي الحوار والنقاش؛ وتداول السلطة في وضع ديموقراطي؛ وإلا كان الحكم استبدادياً. الذين يفترضون مؤتمراً تأسيسياً يفترضون أن المجتمع متماسك بطبيعته؛ وما ذلك إلا أضغاث أحلام: رؤية غير واقعية لمجتمع ينشئ دولة، بينما الواقع منذ فجر التاريخ ان الدولة تنشئ المجتمع.
كل المجتمعات متنوعة متعددة؛ والمجتمع الناجح غير الفاشل هو القادر على الرضى بالدولة ومنحها الشرعية وممارسة السياسة في إطارها. مهما كانت الاعتراضات عند نشوء الدولة، ينشأ الرضى بتراكم التسويات. ليس هناك تسوية تاريخية، هناك تراكم تسويات. في السياسة تراكم، كما في الاقتصاد، كما في أي مجال آخر للنشاط البشري. تراكم التسويات هو عمل الطبقة السياسية؛ كما أن التراكم الاقتصادي هو عمل طبقة رجال الأعمال؛ كما أن التراكم المعرفي هو عمل علماء الثقافة، الخ…
ليس شرط التسوية ان ترضي الجميع، لكنها يجب ان لا تزعج فريقاً بما فيه الكفاية كي يحمل السلاح ضدها. الدولة شرط ما عداها؛ ولا شروط عليها. الوحدة العربية، إذا حصلت، فإنها تكون وحدة أقطار تدرك الطبقات السياسية فيها مصالحها. وهي تبدأ بفتح الحدود أمام انتقال الأفراد والبضائع والأموال ورفع الرقابة؛ وربما تتطور إلى توحيد السياسة الخارجية. لا تتحقق الوحدة بهبوط كائن أعلى ميتافيزيقي قومي يتجلى في هذه الحياة على الأرض؛ بل ما يصنعه الناس رغم تناقضاتهم.
الدولة وجود قسري بطبيعتها. يتناقض ذلك مع الحرية. لا تكون الحرية إلا للأفراد، بضميرهم الفردي في إطار الدولة. مصدر القسر هو نشوء الدولة، ومصدر الحرية هو الرضى والسياسة. تتشكل الدولة الحديثة من أفراد لا من طوائف. يصير هؤلاء (الأفراد) رعايا، بوجود الطوائف، لا مواطنين. ما يمنع تحول الرعايا إلى مواطنين هو هذه الجماعات الوسيطة بين الأفراد والدولة، هذه الجماعات الطائفية والإثنية تضع شروطاً على الدولة عندما تصير «مكونات» لها؛ تتحول الدولة من كيان سياسي إلى «أداة» لتقاسم المنافع. الذين يريدون تشكيل الدولة من مكونات طائفية وإثنية يعودون بنا إلى ما قبل الدولة الحديثة، إلى ما يشبه نظام الملل العثماني. ولم تكن الملل العثمانية دون سلطان ديكتاتور يتحكم بها.
حلَّ التناقض بين الأفراد والدولة الحديثة يكون بالسياسة. يمارس الفرد حريته في إطار الدولة. أما التناقض بين الدولة والطوائف فهو لا يحل إلا بالغلبة، غلبة طائفة أو سلطان، داخلي أو خارجي. في الطوائف لا حرية للأفراد؛ كل منا يتبع القطيع. جدلية العلاقة بين الأفراد المواطنين والدولة أمر ممكن. تزول هذه الجدلية مع الطوائف. طريق كل الطوائف واحدة، وهي إظهار المبطن من معتقدات دينية تعتبرها انها هي الحقيقة. ولا تسوية أو سياسة مع الحقيقة. هي مطلق يجب التقيد به.
المجتمع تجريد، مقولة مجردة، افتراضية، بغياب الدولة. والفرد تجريد أيضاً في إطار سيطرة الطوائف. يتحول الفرد إلى وجود فعلي مع الدولة الحديثة التي تخضع الطوائف لها ولا تخضع هي للطوائف. الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي للدولة لا تتجاوز حدود إبقاء المجتمع والفرد تجريدين افتراضيين. هي عودة لنقطة الصفر، وإلغاء للتراكم الذي حصل منذ قيام الدولة. هي عودة للغلبة من دون الرضى، للقسر من دون الحرية. يكون التراكم بتعديل الدستور، لا بالعودة إلى التأسيس. والتعديل له آلياته، ومؤسساته موجودة. لماذا إلغاؤها، أو تجاوزها؟
تنتقل الدولة من التأسيس إلى الكيان بالتراكم السياسي؛ تراكم التسويات. رسمت حدود الدولة لنا، من دون إرادتنا، وهذا صحيح. لكن العودة إلى نقطة الصفر، هي العودة لا إلى الحرب الأهلية (1975 ـ 1989) وحسب؛ بل هي العودة إلى الانتداب الفرنسي، أو غيره من قوة خارجية حلت مكانه، أو تحاول الحلول مكانه. لكن العودة إلى الصفر لا تحول دون الانهيار إلى ما دون الصفر؛ إلى الحرب الأهلية التي أنتجت المتصرفية، لا لبنان الكبير. الأسوأ من الأسوأ انها العودة إلى الحكم العثماني الذي صار حكما لسلطان لم يعد الأمر بيده.