IMLebanon

التأسيس خارج الهيكل المهدوم

التمديد للمجلس النيابي وعدم انتخاب رئيس للجمهورية حدثان لهما صدى أقوى من التجاوزات الكثيرة الأخرى. لكن في الواقع أنهما تتويج لسلوك وتقليد ومسار انتهجته الطبقة السياسية منذ تسوية الطائف. كل الإصلاحات والمؤسسات التي كان يجب تحقيقها خضعت للمساومة والتسويات التي ألغت دورها أو عطلت فعاليتها وفي مقدمة الشواهد المجلس الدستوري. ويبقى قانون الانتخابات النيابية وفق مواصفات الطائف نقطة الارتكاز لإعادة إنتاج السلطة على قاعدة عدالة التمثيل وصحته.

أديرت البلاد على أساس التنافس الطائفي والمحاصصة وضاقت الهوامش السياسية خارج هذه الإدارة. لم نعد عملياً في دولة دستور وقانون وديموقراطية بل إزاء طغمة حاكمة «اوليغارشية».

في المدى المنظور لا أفق للتغيير الديموقراطي طالما أن الجماعات الطائفية دخلت في ما تعتبره صراعاً وجودياً ما ينقصه من مبررات لبنانية تستجلبه من البيئة العربية التي قطعت شوطاً كبيراً في تفكيك النسيج الوطني والاجتماعي وسلكت بأشكال مختلفة مسالك الحروب الأهلية. نحتاج اليوم إلى «فعل تأسيسي» وليس إلى مؤتمر تأسيسي أو هيئة تأسيسية تعيد إنتاج التقاسم السلطوي. الفعل التأسيسي هو الذي يتصدّى لثقافة سياسية أنتجت كل هذا الخراب والدمار، ويبني منطلقات وركائز لعقلنة السياسات العربية وتحريرها من أثقال الماضي. إنها لحظة الأسئلة الصعبة البسيطة أحياناً كسؤال الجماعات نفسها «لماذا يكرهوننا؟»، والسؤال النهضوي المعلق: لماذا تأخر المسلمون؟ والسؤال القريب: لماذا يمكن أن نحقق إنجازات عسكرية ونفشل في تدبير المجتمعات المدنية؟ ولماذا اتسع التناقض والهوة بين إيمان الشعوب وتصوراتها وبين احتمالات انتظامها في اجتماع سياسي، الأولوية فيه لحقوق الإنسان وحرية التفكير والضمير والتعبير والعمل؟

ما يحصل في العالم العربي هو اختبار غير مسبوق للمجتمعات، للشعوب وليس للدول والأنظمة مهما كانت طبيعتها.

ليس صدفة أن هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، كانت في اهتمامات المثقفين اللبنانيين والعرب الوافدين إلى مناخ الحرية اللبناني قبل أن توقف الحرب الأهلية أي جهد من هذا القبيل ويأتي التعريب الرسمي ليطوي كل الأسئلة والنقاشات ويفرض إلى حد بعيد نمطاً أحادياً من الأجوبة. لم تكن المسألة في أن يصدر كتاب من هنا أو كتاب من هناك وبعضها لم ينل شرف التعريب فظل يكابد أفكاره في المهجر. بل المسألة في الالتحام بين «النقد الذاتي» الذي مارسته بعض النخب العربية على وعي الجمهور والوصول إلى الجمهور واحتمالات فعالية هذا الجمهور. هكذا صارت كل ظاهرة نبيلة أو إيجابية في هذه الأمة، فكراً أو عملاً، تحاصَر بكل أشكال الحصار ويفرض عليها الدخول في محرقة التناقضات التقليدية. أكل الغول العربي نتائج حرب تشرين ثم الثورة الفلسطينية ثم المقاومة الوطنية وهو في طريقه للإجهاز على ثقافة المقاومة أكانت عسكرية أم مدنية. ليس ممكناً ان تخوض حروباً أهلية وتوحد مجتمعاً وطنياً أو قومياً أو تقيم دولة حرة عادلة وترسي واقعاً تقدمياً. لا تنتج الحروب الأهلية إلا انكسارات وشروخاً وتورث عداوات وكراهية يمكن أن تحتجب في العقل الباطن لكنها لا تزول.

لكي يكون اعترافنا بالآخر صحيحاً وصادقاً وشرطاً من شروط الحوار والتعايش الحر يجب أن نفهم هواجسه وقضاياه ونقرّ بشرعيتها ونتعامل معها على أنها تنطوي على شيء من الحقيقة أو الواقع حتى لو كان تصنيفنا لها «خرافة». ونحن الآن نخوض حروباً في الكثير من معطياتها كظلال لخرافات أي لوجدان جمعي تجسّد في كتل بشرية فقدت أو تخلّت أو اختارت أن تتعامل مع التاريخ من منظور أيديولوجيات متماسكة تقدم لها قرابين الضحايا لأنها لا تمتلك وسيلة أخرى للتعامل مع الواقع.

من مقدمات وحاجات حوارنا الوطني الصادق في لبنان ونحن نتقدم على الكثير من العرب في الإعلان والاعتراف بمشاكلنا أن تفرغ الطوائف ما في جوفها من هواجس وطموحات مشروعة أو غير مشروعة ونأتي إلى عقد اجتماعي جديد لا يحتمل التمويه والتكاذب الذي انطبعت به ثقافتنا السياسية.

فهل نفعل؟