في بيروت، وتحديدا داخل أروقة النافعة، تتراكم قصص الفساد والمخالفات، لتصبح كأنها صفحات من رواية غامضة. هنا، في هذا المكان الذي يُفترض أن يكون منارة للعدالة والنزاهة، تكشف الأسرار المظلمة عن نفسها ببطء، واحدة تلو الأخرى. منذ فترة، انفضحت خمسة إخبارات فساد هزّت المجتمع اللبناني، كاشفةً عن شبكة معقدة من التجاوزات التي تمتد من قاعات المحاكم إلى مكاتب المسؤولين الكبار.
ولكن، ما يجعل القصة أكثر إثارة هو الكواليس المظلمة التي تتحكم فيها شركة “إنكربت”، التي بالرغم من انتهاء عقدها، ما زالت تسيطر على هذا القطاع الحيوي، متحديةً القرارات والتوصيات الرسمية. وبينما يعاني المواطن البسيط من البيروقراطية والسمسرة غير القانونية، تنكشف فضائح جديدة تتعلق بتواطؤات داخلية تفتح الأبواب للسماسرة الكبار، وتحرم الشعب من حقوقه الأساسية.
5 إخبارات ضدّ النافعة
فمنذ فترة تم الكشف عن حوالى 5 إخبارات فساد مثيرة للجدل مقدمة ضد النافعة، وتم نشرها بشكل مفصل في مقال سابق، ومنها: عدم إعطاء المواطنين اللاصقات واللوحات وأي من اللوازم مثل دفاتر السيارات ودفاتر السوق، والاكتفاء بورقة تعطى للمواطن. لكن ما يزيد الأمر غموضا هو أن شركة “إنكربت”، التي تعهدت بتوريد هذه اللوازم بحسب نص المناقصة، لم توردها للدولة اللبنانية. والأسوأ من ذلك، ما زالت هذه الشركة تسيطر على هذا القطاع بشكل مريب، رغم أن مدة عقدها قد انتهت بحسب ديوان المحاسبة. الأكثر إثارة هو غياب أي تحرك من المعنيين، خصوصا وزير الداخلية اللبنانية الذي طلب رأي ديوان المحاسبة حول هذا الأمر، الذي بدوره طلب من وزير الداخلية أن يدعي على الشركة لأنها تستولي على المرفق العام ، وتضر بحقوق اللبنانيين وتؤدي إلى عرقلة سير هذا المرفق الحيوي.
ولكن، رغم كل هذه الادعاءات والتوصيات، ذكر مصدر خاص لـ “الديار” ان الشركة ما زالت مصرة على أن يكون عقدها بـ “الفريش” دولار، في حين أن جميع الشركات المماثلة خضعت لقرار مجلس الوزراء رقم 13 ، الذي أضاف لها بالليرة اللبنانية نسبة لزيادة الغلاء المعيشي التي يعاني منها البلد. أما الجزء الأكثر غرابة هو أن الإخبارات المقدمة سابقا، ما زالت عالقة أمام القضاء اللبناني وقيد التحقيق حتى الآن.
ولكن الدعوى الأهم والأكثر إثارة، هي دعوى هدر المال العام التي أقيمت ضد شركة “إنكربت”، المعنية باللوحات واللاصقات، والتي وصلت إلى قاضي التحقيق فؤاد مراد في بيروت. الجلسة المنتظرة ستكون في 5 تشرين الأول، بعد أن حضر محامي الشركة ومحامي السيد هشام عيتاني جلسة في 5 تموز، وقاموا بتقديم دفوع شكلية ليتم تأجيل الجلسة وكسب الوقت.
فضائح بالجملة
أما الأمر الأكثر خطورة فهو أن المواطن ما زالت أموره معرقلة جداً، مما يجبره على اللجوء إلى السماسرة لتسهيل أموره. ورغم أن السماسرة لم يتم تجديد أي رخصة لأحد منهم، يصر محافظ مدينة بيروت، الذي يتولى رئاسة إدارة السير حالياً، على عدم تجديد أي ترخيص لأحد منهم. وبالتالي، فإن كل السماسرة الموجودين في النافعة وجودهم غير قانوني، ولكنهم يسيطرون على النافعة بشكل مريب.
وأضاف المصدر أن الفضيحة الكبيرة تتعلق بالأيام المخصصة للمواطنين الذين يحجزون عبر المنصة. فهناك تواطؤ بين السماسرة والأشخاص الذين يفتحون المنصة، حيث يتم فتحها في منتصف الليل لفترة قصيرة جداً، لا يعلم بها إلا السماسرة الكبار الذين يستخدمون كل أجهزتهم الخليوية، ويشغلون جماعاتهم ليحجزوا كل المواعيد، مما يحرم المواطن من إمكان حجز موعد، ليضطر إلى اللجوء إلى سمسار لتمرير معاملته. وهكذا، تحولت النافعة إلى مغارة أسوأ من المغارة السابقة، حيث يُحكم السماسرة قبضتهم على الأمور ويزداد الفساد انتشاراً.
وأشار المصدر إلى فضيحة أكبر، حيث إن اليومين المخصصين لأصحاب المعارض (الجمعة والاثنين) التي يتم تقديم جداول بها، لم يعودا مقتصرين على سيارات المعارض الكبرى فقط، بل أصدروا تعميما وفتحوا الباب أمام سيارات المعارض المستعملة التي يجلبها السماسرة، وسيارات الأنقاض التي تتم إعادتها إلى السير. يعني ذلك أن كل السيارات أصبح بإمكانها المرور عبر جداول أصحاب المعارض، ولكن بشرط أن تدفع 50 دولارا لنقابة أصحاب المعارض، و25 دولارا للسمسار، و500 ألف ليرة لبنانية توضع في صندوق الدرك. كل هذه التصرفات لا تستند إلى سند قانوني، حيث تحول العمل في النافعة إلى عصابات تحت حجة تسهيل أمور المواطنين بتواطؤ من قبل القوى الأمنية.
تحرّك في مجلس النواب
لكن المفاجأة كانت عندما علم محافظ بيروت القاضي مروان عبود بالكتاب الصادر عن نقابة أصحاب المعارض. فقام بشكل فوري باتخاذ إجراءات لمنع هذه التجاوزات الكبيرة. ومن الجدير بالذكر أن نقيب أصحاب المعارض وليد فرنسيس، قد نشر له العديد من التسجيلات الصوتية التي أكد فيها تقاضيهم مبلغ الـ 50 دولارا على السيارة، ومن ثم دافع عن هذا الكتاب المصادر حالياً والذي يحتوي على أرقام هواتف لمندوبين لهم في كل محافظة.
وعلمت “الديار” أيضاً أن هناك محاولات لإعادة موظفي النافعة الملاحقين أمام القضاء، ولكن المحافظ أصر على عدم السماح لهم بالعودة، خاصة أنهم متهمون في قضايا شبهات فساد، وطالب بوضعهم تحت تصرف الرئيس الأعلى لديهم، لكيلا يكونوا القوى التنفيذية في النافعة التي تبتز المواطنين وتسيّر معاملاتهم.
وفي مجلس النواب، أصبح هناك تحرك حيث تم إنشاء لجنة تقصي حقائق خاصة برئاسة النائب إبراهيم منيمنة، الذي استمع بدوره إلى جميع وزراء الداخلية السابقين. فتبين لهم وجود مخالفات كبيرة منذ أن استلمت شركة “إنكربت” العمل في النافعة. مع العلم أن ديوان المحاسبة قد اتخذ قرارات ضد الشركة ورئيس هيئة إدارة السير هدى سلوم وأعضاء مجلس الإدارة، بسبب المخالفات المالية المرتكبة في هذه المناقصة، التي كان الهدف منها تسليم القطاع بشكل واضح وصريح لشركة “إنكربت”، وتحقيق الأرباح على حساب خزينة الدولة. وهناك مجموعة من المحامين (المحامي علي كمال عباس والمحامي جاد طعمة والمحامي واصف الحركة والأستاذ شاكر محمود طالب) قامت بتقديم إخبارات أمام القضاء بكل هذه المخالفات، وجاء في بعض نصوص:
هدر وتبديد وسرقة واستغلال
هدر وتبديد وسرقة المال العام والمواطنين واستغلال نفوذ بمعرض تخصيص يوم الاثنين من كل أسبوع في هيئة إدارة السير والمركبات لسيارات المعارض، مقابل بدل مالي يصل الى خمسين دولاا أميركيا عن كل سيارة . وبالتالي تحقق جرائم الإخلال بالواجبات الوظيفية واستثمارها لأهداف ومكاسب خاصة ، واختلاس أموال واستغلال نفوذ الجرائم المنصوص عليها في المواد 351 ولغاية 366 من قانون العقوبات، إضافة الى جرائم سرقة المواطنين والاحتيال عليهم، والإثراء غير المشروع المنصوص عليه في المرسوم رقم ٣٨ تاريخ ١٩٥٣/١٢/١٨ المعدل بالقانون رقم ١٥٤ تاريخ ١٩٩٩/١٢/٢٧ والقانون رقم ۱۸۹ تاريخ ۲۰۲۰/۱۰/۱٦.
تم منذ فترة تداول تسجيلين صوتيين أحدهما منسوب الى رئيس نقابة أصحاب المعارض السيد وليد فرنسيس يعلم فيه أصحاب المعارض بتخصيص يوم الاثنين من كل أسبوع لهم لتسجيل سياراتهم دون باقي المواطنين، وتسجيل آخر يشير الى وجوب تسديد مبلغ وقدره ٥٠ دولارا أميركيا عن كل سيارة، حيث تقرر تسجيل ما بين الــ ١٥٠ والـ ٢٠٠ سيارة في اليوم الواحد . (ربطاً قرص مدمج بالتسجيلين)”.
ختاما تظل العديد من التساؤلات عالقة في الأذهان: كيف ستتعامل السلطات مع هذه الفضائح المتزايدة؟ هل ستتمكن من مواجهة الفساد العميق المستشري في النافعة؟ هل سيشهد المواطنون يوما يتم فيه تطهير هذا القطاع الحيوي من التلاعبات والتواطؤات؟
مع كل هذه التساؤلات، يبقى الأمل معقودا على الجلسة المصيرية في 5 تشرين الأول المرفوعة على شركة “انكربت” والتي ذكرنا تفاصيلها آنفاً، حيث يترقب الجميع ما ستؤول إليه الأمور. فهل ستتمكن العدالة من فرض كلمتها وإنهاء هذا الكابوس الذي يعاني منه المواطنون؟ أم أن النافذة على هذا العالم المظلم ستظل مفتوحة، تكشف المزيد من الأسرار والتجاوزات في الأيام المقبلة؟ الأجوبة تنتظر، والعين على قاعات المحاكم والمكاتب الرسمية.