في الذكرى السابعة والسبعين لهذا الذي كان إسمُه الإستقلال لستُ أدري، هل نتأَهَّبُ ونُنْشدُ : كلّنا للوطن … أو ننحني خشوعاً ونقـف دقيقةَ صَمْـت …؟
بأيِّ لسانٍ خجولٍ نخاطب الإستقلال …؟ وبأيِّ قلمٍ مرتجفٍ نكتب فيه، وبأيِّ لغةٍ نكراء نناجيه ، وبأيّ عين عوراء نتطلّع إليه، وفي كلِّ عينٍ دمع.
هذا الكائن الوطني الكياني تعرّض عبْرَ تاريخه الشرعي على أيدي ذوي القُربى، لسبعٍ وسبعين محاولة اغتيال على الأقلّ، ولا تزال الرماح تتكسّر على الرماح ، ومع كلِّ رمحٍ ينزف جرح .
ماذا نقول للبنان الإستقلال …؟ والذين حكموه همُ الذين دمّروه، حطّموا كيانه، زعزعوا أركانه ، مزّقوا أرضه، بعثروا شعبه، أفسدوا حكمه ونهبوه .
هل نقول للشهداء الأوائل عهد المحكمة العرفية في عاليه، إنَّ جمال باشا العثماني كان أرحم من جمال باشا اللبناني …؟
وماذا نقول للشهيد سعيد عقل الذي راح يسأل ربَّـهُ وهو معلَّقٌ على المشنقة : «أنْ يكون دَمُهُ في المستقبل حياةً لبلاده وشرفاً لأهله وأولاده …؟
وتبتهج المشانق مع الشهداء : الشيخ أحمد طبارة، عبد الكريم الخليل، صالح حيدر عبد الغني العريسي، توفيق البساط، والخازنيّانِ والمحمصانيّانِ، وقد خاطبوا أرجوحَةَ الشرف: «مرحباً بالموت يأتي مرحبا في سبيل الوطن الحـرّ …»
يقول الإمام علي بن أبي طالب في الشهداء : إنهم باعوا أوراحهم واشتروا الجنّة.
فهل نجرؤ على أن نقول لقوافل الشهداء الذين سقطوا على مدى مراحل التاريخ حتى انفجار مرفأ بيروت : إننا بعنا أرواحكم واشترينا الجحيم، وإنّ أرواحنا معلّقة على مشانق الذُلّ والجوع والظلم والفساد في اللاَّوطن …؟
أين هم المسلمون الذين كانوا عهد السلطنة العثمانية موالين للحكم العثماني باعتباره معقل الخلافة الإسلامية، إلاّ أنهم انقلبوا عليه ثائرين بقيادة الشيخ محمد الجسر الذي كان نائباً لوالي بيروت، عندما ارتكب جمال باشا جريمة تعليق المشانق للمسلمين والمسيحيين من أحرار لبنان، فوحّدوا بذلك الموقف الوطني …؟
وأين هم المسيحيون وقد قامت معهم «أول حركة إستقلالية سنة 1875 عندما أسّس شبان من خرّيجي الجامعة الأميركية جمعية سرّية وكانوا جميعهم من المسيحيين، ثم أدخلوا معهم إثنين وثلاثين عضواً من العناصر المسلمة والدرزية حتى كان لهذه الجمعية فرعٌ في دمشق …
الإستقلال الذي هو بالمعنى الفلسفي كلّيٌ مطلق، كان صيغةً «لغويّـةً» في الدستور بهدفِ أنْ يتجسّد صيغةً روحية متأصّلةً في النفوس، إلاّ أَنه راح يتدحرج هبوطاً إلى نصف استقلال وأدنى، وفي المفاهيم الإستقلالية ليس هناك أنصافٌ وأثلاث، إنّ نصف استقلال يعني نصف إنتداب، ونصف انتداب يعني نصف عمالة .
لا وحدة وطنية بلا وطن، ولا وطن بلا استقلال، ولا استقلال بلا سيادة، ولا سيادة بلا حريّة .
الوطن والسيادة والحرية والديمقراطية والوحدة الوطنية والعيش المشترك، كلَّها كلمات برّاقة جوفاء نجترُّها يومياً على سبيل الإستهلاك التجاري والمراوغة الكاذبة، فيما نحن نتوحّد مع الآخر وننشطر مع الذات، وإنْ تحرّرنا من انتداب خارجي نرزح تحت انتداب داخلي .
ويستمر هذا اللبنان الحرّ السيّد المستقلّ وهو مقيّدٌ بالسلاسل، مربوطُ مشروطٌ مرهونٌ، والحاكم فيه يسدّد فائدة الرهْنِ بالرِبا .
مع هذا الواقع المصيري الرهيب يصبح الكلام على حكومةٍ أو لا حكومة من التفاصيل، فيما الإنقاذ من هذا الطوفان يحتاج إلى نوحٍ وسفينةٍ وبحر، من أجل ولادة جنسٍ سياسي جديد.