Site icon IMLebanon

حين نام اللبنانيون باكراً علّهم يحلمون بوطن

 

 

الإستقلال 78 بأيِّ حال عدت

أكاليل على النصب التذكاري. سرب من الطائرات الحربية ومروحيات تابعة للقوات الجوية في الجيش اللبناني. أعلام القوات المسلحة أمام منصة الشرف. مدفعية الجيش اللبناني أطلقت 21 قذيفة مدفعية خلبية إيذاناً بوصول السيد رئيس الجمهورية. جنود شكلوا وحدات رمزية جداً حملت أعلامها ومرت أمام المنصة الرسمية. إنتهى العرض غادر الرؤساء الثلاثة كما وصلوا عابسين. انتهى الفولكلور. إنتهى “الإستقلال”.

نقلّب بين الأسماء. كثيرون ممن نادوا بالإستقلال وهتفوا باسمه وعملوا من أجله اختفوا. بعضهم مات، بعضهم قُتل وبعضهم هاجر. رجال الإستقلال الأول ماتوا. جميعهم ماتوا. رجال من رجال الإستقلال الثاني في 2005 قُتلوا: رفيق الحريري، باسل فليحان، أنطوان غانم، وليد عيدو، بيار الجميل، سمير قصير، جبران تويني… وصولاً إلى وسام الحسن. الأسماء محفورة في ضمير الشرفاء وفي عيون القَتَلة. وهناك من رحلوا وهم يتحدثون عن ثورة الإستقلال. سمير فرنجيه أحد هؤلاء. وأتت ثورة 2019 للإستقلال عن كلِ الطبقة الحاكمة والفاسدين وطرد كل من فيها. تظاهرات جرت، دواليب حرقت، يافطات، ودماء سُكبت. مرّت الأيام. تعب الثوار وبقي الحكام، الذين جلسوا البارحة يتقبلون التهاني في وطنٍ أصبح صالون عزاء على مدّ العين.

 

البارحة تكرر الفولكلور. هو يشبه في بعض ما فيه ما كنا ننتظره يوم كنا صغاراً. كنا نفرح بعطلة المدرسة ونتحلق حول الشاشة الصغيرة وما إن يغادر “الرؤساء الثلاثة” والوزراء والنواب والسفراء موقع العرض، حتى نهرع الى الشرفة لمشاهدة الطائرات “تستعرض” في السماء. مرّت الأيام. سنة أسوأ من سنة. حتى وصلنا الى سنين، لبنان “الرسمي” هو من يحتفل فيها، أما لبنان الشعبي فيعيش خيبات لا تنتهي.

العرض المدني

 

الإستقلال ليس أكثر من فولكلور. والبلد اليوم في متاهة القهر الشديد. والقهر إذا تمادى قد يتحوّل هو ايضاً الى فولكلور لكن حزين. منذ أعوام عديدة يتكلم اللبناني عن “الحساب”. اللبناني يريد أن يحاسب من جعل البلد رهينة. “بدنا نحاسب” هل تتذكرونها؟ هي وعدت قبل خمسة أعوام: “رح نخلي عيد الإستقلال يكون إلو السنة (2015) معنى”. صدقنا. تكررت الوعود. صدقنا أيضاً.

 

إنتهى العرض العسكري الرسمي. ساعات وانطلق العرض المدني. هو ليس إستعراضاً بل مواجهة. نريد حقا أن نُصدق. خمسون فوجاً شاركت. في الـ2019 كانت أول “مواجهة” في استعراض مدني. وكم صفقنا يومها لها. صدقناها. نريد ان نُصدق. نحاول أن نُصدق. فلولا فسحة الأمل لوضّب كل اللبنانيين، القادرين طبعاً، أمتعتهم وغادروا.

22 تشرين الثاني هو يوم الإستقلال في الكتب. نحن الشعب الحرّ. أنتم هذا الشعب. فهل نزلتم البارحة، بعد الإحتفال الرسمي، الى السوبرماركت؟ أنسوا اللحمة وصدر الدجاج وجوانح الدجاج وحتى ورك الدجاج. أنسوا القشقوان والحبش والطلياني. وحتى انسوا الجبنة المبسترة والبن واللبنة واللبن. أسعار المحارم نار. والنوعية الرديئة باتت أكثر من قدرتنا على الشراء. والخضار تُحلق مع الدولار الذي قفز فوق حاجز الـ23 ألفاً. والتوقعات ان يحلق بعد وبعد. ثمة امرأة تناولت لوح شوكولا ووضعت ورقته على رف مجاور. نلحقها؟ نعاتبها؟ أحد العاملين في سوبرماركت في الحازمية فعل. وهي بكت قائلة “طلع على بالي” وليس معي ثمنه. يا لهذا الذلّ. عنصر في ثيابه العسكرية يتبضع. يبدو وكأنه أتى للتوّ من الإستعراض العسكري. ثيابه “بطقتها” لكن روحه محطمة. نراه يمسك بالمعلبات، يقرأ السعر، ويعيدها الى الرفوف. نلاحقه بعيوننا. نلاحق عشرات المسنين الذين يتمتمون لوحدهم بكلمات ليست مثل كل الكلمات. مذهولون يبدون. دمعتان انهمرتا من عيني مسنة وهي تعبئ كيلو بندورة. ثمن البندورة نار. البطاطا ليست افضل. 13 ألفاً. فماذا يأكل الفقير؟ ولدٌ يركض أمام والدته يضع على جبينه العلم اللبناني إحتفاء. هو لا يزال يفرح بالعيد وربما فرحه الأكبر أن في العيد عطلة. يُمسك بلوح شوكولا “محلي” فتنهره والدته قائلة: “شو وعدتني؟”. يتذكر أنه وعدها أن يأتي معها شرط ألا يمسّ أي سلعة على الرفوف ولو سال لعابه. يفي بوعده. ينظر ويمشي.

 

مسنّان يدردشان: “البارحة اشتريت ظرف بنادول ودفعت ثمنه 35 ألفاً. ظهري يؤلمني ليل نهار والمسكن ما عاد يفي وقدرتي على سداد ثمنه ما عاد ممكناً”. تهز مسنة رأسها مرددة لوحدها لكن بصوتٍ عالٍ: “يلعن أبو هالحياة”.

 

نتذكر اننا في يوم عيد الإستقلال. نتذكر أن اللبنانيين، أو بعضهم، قد يشاركون في “عرض الإستقلال – المواجهة الشعبية”. نتذكر رياض الصلح وكميل شمعون وحبيب أبو شهلا وعادل عسيران ومجيد ارسلان وسليم تقلا وصائب سلام وعبد الحميد كرامي. ثمة رجالات إستقلال منسيون هناك من ذكرنا بهم. إبن البترون نبيل يوسف، تذكر المحامي يوسف أسعد بك ضوّ، كان نائب بلاد البترون يومها، ولعب دوراً مهماً في معركة الإستقلال. لكن، لم يُكرم مع رجالات الإستقلال. نسوه. من زمان وزمان هناك منسيون مهمشون دائماً أبداً.

 

إستعراض بعد الظهر

 

الرؤساء الثلاثة العابسون في الإستعراض إفترت ثغورهم بعده. هم استكملوا “الإحتفال الرسمي” بلقاء ثلاثي رسمي في بعبدا تمخض عن “ولا شي”. والناس، الشعب، جياع. ثمة أطفال ينامون ببطون خاوية. أكثر من ثمانين في المئة من الشعب اللبناني في فقر. فماذا قد يفعل هؤلاء باستقلال قيل عنه ناجزاً. وشتان ما بين القول والواقع. فالبلد يمكن أن يُوصف بكل شيء، بكلّ كلّ شيء، إلا بالبلد المستقلّ.

 

فلننتقل الى قلب بيروت، الى مكان العرض المدني. الإستعدادات تمت. أهالي ضحايا الرابع من آب هنا. أهالي ضحايا ليس عليهم ذنوب إلا أنهم وثقوا أنهم في دولة لها إستقلال وحدود وفيها دولة وقانون. سيارات الدفاع المدني في المقدمة. الأعلام اللبنانية ترفرف. جميل هو العلم اللبناني. العلم له هنا نكهة مختلفة تماماً عن إستعراض قبل الظهر. من هنا نكاد نرى الموقع حيث كان يتواجد فيه العنبر رقم 12. رائحة دم الضحايا نكاد نتنشقها. فرقة تعزف بثياب بألوان العلم اللبناني. وأمهات يرفعن أيضاً العلم اللبناني لكن باللونين الأسود والأبيض. المباني على جادة شارل حلو حيث العرض المدني لا تزال “هياكل” شاهدة على جريمة العصر، على إغتيال مدينة. أولاد يلوحون بالعلم. هؤلاء صغار باتوا يخافون حتى من ظلهم في بلد الجرائم فيه مباحة والمشاة مشاريع موتى. “وحدها العدالة تشفينا” شعار في المكان.

 

جرحى الرابع من آب يشاركون. بعضهم على كراسٍ متحركة. بعضهم ضحايا أحياء الى الأبد. القضاة يشاركون. ثمة أمل يبقى في القضاء الحق. في العدالة مهما قويت الحيتان. الحقيقة الحقيقة الحقيقة قالوها مئة ألف مرة. لكن، من شاركوا في إستعراض الإستقلال الرسمي لا يسمعون أو يسمعون وينسون أو آذانهم صماء وأجسادهم “روبوتات”. الأطباء هنا. أصحاب القمصان البيضاء الصامدون هنا، على الرغم من كل النكبات، لهم ألف تحية. نشيد الموت يعزف. نشيد الحياة يعزف. نشيد لبنان يعزف.

 

ماذا بقي غير العلم؟

 

ثورة. كم نحن بحاجة الى الثورة الحقّة. ثورة بيضاء يريدونها الأطباء. الجمعيات الأهلية أيضاً هنا وهي التي كانت “على الأرض” يوم فعلت الدولة فعلتها، وتخاذلت عن مراجعة ضميرها ومدّ يد العون الى ضحاياها. فوج العمال أو ما تبقى من عمال في لبنان هنا. فوج المهندسين أيضاً هنا. الأعلام لا تزال ترفرف. فوج المحامين مرّ ايضاً رافعاً شعار “دفاعاً عن لبنان العظيم”. كل ذلك يحدث تحت يافطة معلقة من أكثر من عامين “here to stay”. ليس سهلاً تطبيق هذه المقولة. فوج الاشبال. فوج الأطفال أصحاب الأحلام الكبيرة يمرّ. والأمهات هنا أيضاً في فوج “حب العطاء”. فوج الصناعيين رفع شعار “وطن النجوم صنع في لبنان”. فوج الشمال وفوج الجنوب والبقاع والجبل وفوج المسعفين… هم أفواج من كل لبنان وكلهم يريدون “لبنان الدولة”. فوج الزراعة وفوج التجّار وفوج الشمس والقمر والنجوم…

 

هذا هو عرض الإستقلال المدني الذي يشبهنا. لكن، اين الإستقلال الحقّ؟ هل نحن في إستقلال أم في مناشدة وسعي لحدوث الإستقلال؟ ماذا عن اليوم وغداً وبعد غدٍ؟ ماذا بعد انتهاء “الفولكلور الرسمي والشعبي”؟،

 

ثمة مشاركون سيبحثون في جيوبهم عن بعض المال يعيدهم، في آخر النهار، الى بيوتهم. ثمة وجع كثير. ثمة أطفال لن يتناولوا العشاء قبل النوم. ثمة كبار لن تغمض لهم عيون وهم يفكرون بـ”بكرا”. ثمة هواجس من حرب أهلية أو الخضوع. ثمة إعتداء يومي على مسلمات الدولة والقانون والدستور والعمر. ثمة إحتلال سيصمد قبل يوم الإستقلال وبعده. فهل علينا أن نظل نحلم؟ فلننم باكراً. فلنحاول أن نغفو فلربما يمر في الحلم مشروع وطن يمنحنا القدرة على الصمود بعد بحث عن الدولة والإستقلال والعمر الباقي.