غداً تصادف الذكرى السابعة والسبعين لاستقلال لبنان عن فرنسا دولة الانتداب، في ٢٢ تشرين الثاني عام ١٩٤٣. وكانت فرنسا آنذاك تحت الاحتلال الألماني، أي ان لبنان أخذ استقلاله عن دولة محتلة، وهذا ما لا يُحبّ أن يفكّر فيه اللبنانيون لا من قريب ولا عن بعيد، لأنّهم يخجلون من تاريخهم المليء بالمجازر والاستتباع.. ولذلك لم يستطيعوا حتى الآن إنتاج كتاب لتاريخ لبنان لكي نعلّمه لأبناء لبنان المقيمين، بصرف النظر عن اللبنانيين الجدد الراغبين باستعادة الجنسية من أجل الحقّ بتملّك الأراضي وثروات البحار وتحقيق الأرباح.. وهم من المسلمين والمسيحيين الذين هرب أجدادُهم من لبنان حرصاً على أبنائهم وأحفادهم من ظلم اللبنانيّين للبنانيّين منذ قديم الزمان.
طوال سنوات الحرب الدامية والطويلة والاحتلال لم يُحدث أي شغور رئاسي أبداً، بل على العكس احتُرمت المواعيد الدستورية لانتخاب رئيس للبلاد، وكان اللبنانيّون يحتفلون بعيد الاستقلال كل عام وفي أحلك الظروف وأصعبها. أما الآن فهذه هي المرة الثانية التي تأتي فيها ذكرى الاستقلال ولبنان بدون رئيس للجمهورية. والغريب هو أن المرشحين للرئاسة هم في أحسن حال، وكل منهم يرغب في تأخير الاستحقاق الى ما بعد الحرب العالمية الرابعة، لأنهم يعتقدون أنه في تأجيل الانتخاب يتضاعف حظهم بالوصول الى الرئاسة أكثر من الآن، ولذلك نجد أنّ هناك توافقاً بين كلّ مرشّحي الرئاسة حول عدم انتخاب رئيس للبلاد. والأشدّ مرارة من كلّ ذلك هو أنّهم ينتظرون أن تسمّي القوى الخارجية هذا المرشّح أو ذاك المرشح، وهذا ما يؤكّد خرافة استقلال لبنان.
تعتقد غالبية القوى السياسية اللبنانية أن السياسة هي عدم استخدام العنف المسلّح وأنها حرب باردة، أي أن يتمّ القضاء على الآخر بدون رصاص أو دماء. فلا مانع عندهم من الانهيار الاقتصادي رغم أنه يُفلّس اللبنانيين لكنه يبقيهم على قيد الحياة، كذلك التخلف التعليمي، ناهيك عن الفساد العلني والرسمي، وانه على اللبنانيين ان يشكروا الطبقة السياسية عليه لأنها تركتهم يختارون الفساد الذي يريدونه، ناهيك عن التعطيل من هنا وهناك والذي اصبح ثقافة وطنية عامة وميزة لبنانية بامتياز.
سبعة وسبعون عاماً ولم نترك دولة أو قوّة، قريبة أو بعيدة، شقيقة أو عدوّة، إلا واستدعيناها الى وطننا الحبيب لبنان، وفتحنا لها بيوتنا التي أوصدناها في وجه بَعضنا البعض، ولم نترك جيشاً غريباً إلا واستقبلناه بالورود والأرز. وفي كل مرة كانت تتكوّن لدينا نخبة لبنانية تريد بناء الدولة المدنية المستقلة والحديثة التي تقوم على العلم والمعرفة والحريّة والعمل والعدالة والإنتاج والإبداع، كنّا نحمل في وجهها السلاح ونغتالها بالرصاص او المتفجرات، ثمّ نعمل على تدمير تجربتها وإنجازاتها، تحت شعار حماية حقوق هذه الطائفة أو تلك الطائفة، وبكلّ وقاحة وبدون حياء كنّا نخرج دائماً على الدولة وأسبابها لنلتحق بطائفيتنا البغيضة.
وبذلك تكون كلّ الطوائف اللبنانية، وبدون استثناء، ارتكبت نفس الجرائم بحق لبنان واللبنانيّين، ومنعت قيام الدولة وتحقيق الاستقلال. وبعد أن هرِمنا كما هرم آباؤنا قبلنا من دون أن يشاهدوا لبنان الدولة والسيادة والاستقلال، فهل ستُهرم الأجيال المقبلة من دون أن ترى ذلك الحلم المحال؟ وبعد سبعة وسبعين عاماً على الاستقلال وخمسة وتسعين عاماً على قيام دولة لبنان الكبير، لم يبقَ أمامنا سوى خيار وحيد إذا كنّا نريد الدولة المدنية المستقلة وهو أنّ الاستقلال لا يكون.. إلا بالاستقالة من الطوائف اللبنانية!