لو لم تذكّرنا الروزنامة بالثاني والعشرين من تشرين الثاني، لمَا تذكّرنا أنَّ هذا التاريخ يتوافق مع عيد الإستقلال، ونحن نعيش عالماً يخرج من التاريخ والجغرافيا، ويقودنا المجهول إلى حيث لا مكان ولا زمان. منذ 1975 يوم سيطرتْ دولةُ الميليشيات على دولةِ المؤسسات، أصبح الإستقلال عندنا إستقلالات وغرقنا في بحورٍ من الحروب: حربٌ فلسطينية، وحرب إسرائيلية، وحربٌ سورية، وحربٌ أهلية بسبب الإستقلال عن الإستقلال، وحربٌ مارونية مارونية بسبب الإستقلال بالكرسي. وقد كُتبَتْ علينا اليوم حربٌ إسرائيلية- فلسطينية- إيرانية، على حسابِ الإستقلال. الدول العريقة تخوض الحروب إجلاءً لمحتلٍّ، أو لردْعِ غزوٍ خارجي، ونحن نخوض حروباً ضدّ الغزو الخارجي وضدّ الغزو الداخلي، كمثل القرصان الذي يسرق في أرضه والصَقْرِ الذي يصطادُ في وكْرِه. هذا اللبنان الذي كان في 23 أيار 1926 أيْ منذ مئة عام، أول جمهورية في العالم العربي ينصّ دستورها على إقامةِ نظام برلماني وحكومة ديمقراطية، أصبح بعد مئة عـام بلا جمهورية ولا ديمقراطية ولا نظام ولا دستور. دستور 1926 قيل: إنّه يوازن بين الشرق والغرب، فكان دستور 1943: لا للشرق ولا للغرب، حتى استقرّ دستور الطائف 1990 على: لبنان العربي الهوية والإنتماء، فاعتقدنا أننا تلاقينا أخيراً حول لبنان الذي نريد، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. نكاد اليوم نُكرّر كلَّ التجارب التاريخية ذاتها، كلما كان نـزاعٌ داخلي حول الولاء الوطني والسيادة والإستقلال، كان انقسامٌ واقتتال، والإقتتال يستدرج الوصايات. هكذا كان، منذ عهد الدولة العثمانية ووصاية وزير خارجيتها شكيب أفندي، وعهد المتصرفية ووصاية واصا باشا، وعهد الإنتداب الفرنسي والمفوّض السامي الكونت دي مارتيل، وعهد الوصاية المصرية والمفوّض السامي عبد الحميد غالب، وعهد الوصاية السورية والمفوّض السامي غازي كنعان، ولا نزال دولةً تحكمها الوصايات، وعلى كلِّ خَصيٍّ وصيّ. أَلا، تسخَرُ منّا الأُممُ والقِمَم ولبنان المستقلّ هذا، بات يحتاج إلى بيانٍ من القمة العربية الإسلامية الأخيرة يدعو المسؤولين فيه إلى انتخاب رئيس له؟ هناك فريقٌ يعتبر انتخاب رئيس للجمهورية في الظروف الراهنة انكساراً للشيعة، وهناك فريقٌ يعتبر عدم انتخاب رئيس على مدى سنتَين ويزيد انكساراً للموارنة… متى نؤمن بأنّ انكسارَ الشيعة هو انكسارٌ للموارنة، وانكسارَ الموارنة هو انكسارٌ للشيعة… ومتى نعرف كيف ننكسرُ معاً وننتصرُ معاً؟ أيّ بلدٍ مستقلٍّ سيّد، تدعو القمة العربية المسؤولين فيه إلى الحرص على سيادته والتشدّد على دعم الجيش للحؤول دون الفتنة وتكرار جيوش أمراء الحرب؟ يوم انتُخب الشيخ بشير الجميل رئيساً، أعلن عزْمَهُ على حلّ القوات اللبنانية ودعا مَنْ يرغب مِنَ القوات المتقاتلة إلى الإنخراط في صفوف الجيش، وقد رأى أنّ لا مجال للإنتقال من خندق الشارع إلى خندق الشرعية إلاّ بالإندماج الوطني تحت لواء وحدة الجيش. وهذا الجيش الذي يُعتبر المؤسسة الوحيدة المتبقِّية للمحافظة على ما تبقّى من هيكل الدولة وأشلائها، يُستهدَفُ اليوم من عدوّ الخارج ويُطعن بسكيّن «بروتُس» من الداخل. بصراحة، إنّ معظم الركائز الوجودية التي يقوم عليها الوطن المستقل أصبحت مزعزعةَ الأركان، ولن تكون قيامةٌ إلّا عندما نجدّد الإيمان بقدسيّةِ لبنان مع كمال جنبلاط في كتابه: «المعرفة زاد الإنسان» – ص: 39-40 – فيقول: «أؤمن بلبنان، فأرضهُ مقدّسة وحدوده محرّمة وأرزُهُ لا يُمسّ ونورُه ساطعٌ على الدهر… أؤمن بقدسية لبنان وبعظمة لبنان المميّز عن جميع دول الأرض بالنبوغ والعبقرية والفكر، ومَن يعمل أو يعلّم ضدّ لبنان يجدّف على الله وعلى الضمير والتاريخ…».