Site icon IMLebanon

لا احتفال مركزياً في غياب رأس الدولة

 

 

في ذكرى الإستقلال… مناكفات وتوترات تحت عباءة البروتوكول

 

 

وقفت مدرّسة اللغة العربية أمام طلاب المدرسة المجموعين في الملعب للاحتفال بعيد الاستقلال وراحت تلقي خطاباً للمناسبة مكرّرة لازمة واحدة تفتتح بها كل جملة: أيّ معنى للاستقلال اليوم ولبنان يعاني؟ لتعدّد بعد كل تساؤل ما يعاني منه لبنان… كان ذلك في العام 1987… واليوم بعد 35 عاماً لا يزال صوت تلك المدرّسة عالقاً في ذهني ولا يزال سؤال «أي معنى للاستقلال اليوم؟» أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فأي معنى للاحتفال بذكرى الاستقلال اليوم في ظل فراغ رئاسي مجهول الأفق؟

إحتفالات استقلال كثيرة مرّت على لبنان منذ تلك السنة رافقتها أحداث وحروب وصراعات بين الأحزاب ومناكفات بين الرؤساء. لكن رغم كل الإنقسامات ظلّ الاحتفال بعيد الاستقلال يحمل رمزية وطنية جامعة، الى أن بلغ لبنان مراحل لم يبلغها حتى في أسوأ أيامه تجلّت في الفراغ الرئاسي والفراغ الحكومي المتكرّر. وصارت احتفالات الاستقلال منذ نشوء هذه المرحلة مضعضعة تشهد أحداثاً لم يعرفها لبنان في تاريخه الحديث.

المشهد السياسي تغيّر في لبنان وتغيّرت معه روحية احتفال الاستقلال وإن كان في الظاهر لا يزال يحافظ على أصوله البروتوكولية. نداء الوطن إلتقت مدير عام المراسم في القصر الجمهوري د. نبيل شديد للاطّلاع منه على ما يقتضيه بروتوكول الاحتفال بذكرى الاستقلال في ظل الشغور الرئاسي (أو ربما لم يخطر ببال المسؤولين عن وضع البروتوكول أن يصبح الشغور في مركز رئاسة الجمهورية عادة يجب التعاطي معها).

 

«لا يقام احتفال مركزي لذكرى الاستقلال في غياب رئيس الجمهورية يؤكد د.شديد رغم عدم وجود نصّ في هذا الشأن. فالاحتفال المذكور ينظّم من قبل مدير عام المراسم في رئاسة الجمهورية وتحت إشراف رئاسة الجمهورية وينفّذ من قبل قيادة الجيش. وينقسم الاحتفال الى جزءين، الأول يقضي بوضع أكاليل على أضرحة رجال الاستقلال، أما الثاني فهو العرض العسكري المركزي الذي يقام بحضور الرؤساء الثلاثة».

 

«وضع الأكاليل يتمّ بالتنسيق بين المديرية العامة للمراسم في رئاسة الجمهورية وكلّ من رئاسة مجلسي النواب والوزراء، ويتم التشاور بين الرئاسات الثلاث لتكليف وزراء ونواب بتمثيل الدولة اللبنانية ووضع الأكاليل وذلك تفادياً لما كان يحدث سابقاً حيث كان يتم إرسال ثلاثة أكاليل باسم الرئاسات الثلاث. وتوحيد الأكاليل بدأ في عهد الرئيس ميشال عون. وهذه السنة بغياب رئيس الجمهورية سوف يتم الأخذ بتوجيهات دولة رئيس مجلس الوزراء لتكليف هؤلاء لكن لا شكّ أن المراسم والإجراءات المتّبعة ستبقى ذاتها».

 

فهل تبقى الأسماء أيضاً ذاتها كما العام الماضي تجنباً لأي لغط سياسي ودستوري؟ أم مع تغيير بعض الوجوه البرلمانية قد تتغير بعض الأسماء المكلّفة بوضع الأكاليل؟

 

25 هو عدد الأكاليل التي توضع على أضرحة رجالات الاستقلال، أما تكليف من يمثل الدولة اللبنانية بوضعها فلا يخضع للتوزيع الطائفي على خلاف العادة المتبعة في كل الإجراءات في لبنان بل يتم الاختيار بما يتناسب مع المناطق والوظائف. فعلى تمثال فخر الدين مثلاً يكون وزير الدفاع من يضع الإكليل مهما تكن طائفته».

 

الجزء الثاني من الإحتفال بذكرى الاستقلال هو الاحتفال المركزي والعرض العسكري. ولكن بغياب رئيس الجمهورية لا يقام أي حفل مركزي بل تجرى احتفالات ضيقة من قبل قيادة الجيش. فالدولة اللبنانية وفقاً للعرف المعمول به تتمثل برئيس الجمهورية وفي حال غيابه لا يعود من المنطق بشيء إقامة احتفال مركزي كبير.

 

«احتفال الاستقلال يخضع لبروتوكول خاص يتم تنفيذه بالحرف مهما كانت الظروف السياسية أو التوترات بين الحاضرين. البروتوكول هو المظلّة التي ينضوي تحتها الجميع كما يشرح د. شديد، والرؤساء والحاضرون جميعهم يعرفون الأصول البروتوكولية المتّبعة ولا يحيدون عنها. لا شكّ أن للأمور السياسية تأثيرها ولا سيما منذ العام 1999 لكن قوة المراسم هي في حسن تنظيم وضبط كل الأمور وإيجاد المخارج البروتوكولية لما يمكن أن يطرأ من أحداث مثل تغيّب شخصيات مثلاً عن الاحتفال أو حضور أخرى لا مكان لها في التراتبية البروتوكولية المعهودة. ورغم كون المراسم لا تتدخل في السياسة إلا أنها تراعيها مع الحرص على تطبيق الأصول».

 

لكن هل يمكن للبروتوكول التحكم بالنظرات واللفتات وتعابير الوجه؟ فالبعض لا يزال يذكر تلك النظرة التي وجّهها الرئيس الحريري للرئيس عون خلال حفل استقلال العام 2021 بعد عجزه عن تشكيل الحكومة بعد ما يقارب 18 لقاء غير ناجح بين الرجلين. فتجهُّم الوجوه وتململ القعدة من الإشارات التي قد تعبّر عن الكثير ممّا يجري في السياسة لكنها تبقى تحت عباءة البروتوكول.

 

إجراءات بروتوكولية صارمة

 

أول الواصلين الى الاحتفال بعد المدعوين يكون رئيس الأركان ويليه قائد الجيش ثم الرؤساء السابقون الذين يتم توقيت توالي وصولهم بالدقيقة، ثم يصل رئيس الحكومة وبعده رئيس مجلس النواب اللذان تعزف لهما معزوفة خاصة مع لازمة النشيد الوطني ويصل بعدهما رئيس الجمهورية الذي يعزف له نشيد التعظيم مع لازمة النشيد الوطني. وبعد وضع الإكليل على النصب التذكاري وإضاءة الشعلة يقوم الرئيس باستعراض القوات المشاركة في العرض برفقة وزير الدفاع.

 

على كرسي مماثل لكراسي الرؤساء يجلس رئيس الجمهورية ليترأس الحفل والى يمينه رئيس مجلس النواب والى يساره رئيس مجلس الوزراء وخلفه رؤساء الجمهورية السابقون وعقيلات رؤساء الجمهورية السابقين ثم الوزراء والسفراء والنواب.

 

وقد يصطف الى جانب الرئيس ثلاثة رؤساء بدل الاثنين إذا ما صادف وجود رئيس حكومة تصريف أعمال ورئيس مكلف. وقد حصل الأمر أكثر من مرة كان آخرها وجود الرئيسين الحريري وسلام معاً في العام 2016. ويقف الاثنان عن يسار رئيس الجمهورية لكن الأقرب إليه يكون رئيس الحكومة المستقيلة الذي يأتي بروتوكولياً قبل المكلف.

 

كما في حفلات الزفاف هكذا أيضاً في احتفالات عيد الاستقلال يتم إجراء التمارين على كل الإجراءات البروتوكولية. يرسل الرؤساء مندوبين عنهم لإجرائها والتأكد من التوقيت وعدم وجود تعديلات تذكر ويسير هؤلاء الى جنب الرؤساء يوم الاحتفال للحرص على اتباعهم الإجراءات البروتوكولية الموضوعة. الرئيس بري الذي واكب أربعة عهود وثلاث فترات فراغ رئاسي على مدى ثلاثين عاماً هو الأكثر إلماماً بالإجراءات… حفظها غيباً. حتى الرئيس لحود المشاغب بروتوكولياً والذي تمنّع عن حضور احتفال عيد مار مارون في الجميزة مضطر للالتزام بالبروتوكول في احتفال عيد الاستقلال.

 

عناق يخرق البروتوكول

 

الجميع وفق ما يؤكد د. شديد يعرفون الأصول المتّبعة ويلتزمون بها حرفياً. لكن قد يحدث من وقت الى آخر بعض الخروقات اللطيفة التي تعمد وسائل الإعلام ومواقع التواصل الى تضخيمها كتلك المرة التي تبادل فيها الرؤساء عون وبري والحريري تناول حبات البونبون (في إشارة ربما الى ما يجمع بينهم من «ودّ»).

 

وفي حادثة خرقت البروتوكول في العام 2017، قام الرئيس عون إثر وصوله الى الحفل باحتضان الرئيس الحريري وتقبيله بعد عودة الأخير من المملكة العربية السعودية بعد تقديمه استقالته منها ثم العودة عنها. وكان هذا أول لقاء بين الرجلين بعد تلك الفترة المأزومة التي مرّ بها الحريري. فكانت تحية استثنائية من عون فيما يفرض البروتوكول أن يصافح الرئيس باليد رئيسي مجلس النواب والوزراء ومن ثم يقوم بتحية الجمهور الموجود في الصفوف الخلفية.

 

عند اختتام الحفل يغادر الرؤساء كما وصلوا، كلّ بموكبه إلا إذا اتفقوا على تكملة اللقاء بينهم في مكان ما فينطلقون في سيارة واحدة كما حصل في العام 2021 حين طلب عون وبعد انتهاء العرض العسكري من برّي وميقاتي مرافقته في موكبه للانتقال إلى بعبدا، فاستقلّا سيارة الرئاسة الأولى، وحصل اجتماع بينهم في مكتب رئيس الجمهورية. لكن في العادة يتوجه الرؤساء الثلاثة كل في موكبه الى القصر الجمهوري لاستقبال وفود المهنئين وينضم إليهم وزير الخارجية عند مرور سفراء الدول.

محطات استقلالية وفراغات رئاسية

 

بعد فراغ رئاسي تلى عهد الرئيس ميشال سليمان ودام سنتي 2014 و2015 عاد لبنان ليحتفل بعيد استقلاله في عرض عسكري مركزي مع انتخاب الرئيس ميشال عون على رأس الجمهورية. وإذا كانت صورة الرؤساء الثلاثة في العرض قد خلقت موجة من التفاؤل حينها إلا أنها كانت موجة قصيرة الأمد لم تصمد طويلاً أمام العرقلة التي منعت تشكيل الحكومة لأكثر من ثمانية أشهر. وميزت المناكفات السياسية والظروف المعاكسة عهد الرئيس عون بحيث إن الاحتفال المركزي بعيد الاستقلال لم يجر إلا لثلاث مرّات من عمر العهد.

 

أما الفراغ الرئاسي السابق الذي تلى عهد الرئيس لحود فلم يشهد مرور عيد استقلال إذ كان عهد الرئيس لحود قد انتهى بعد يومين على عيد الاستقلال عام 2007 فيما انتخب الرئيس سليمان في أيار 2008.

 

الاحتفال بعيد الاستقلال في العام 2019 لم يكن طبيعياً فالجمهورية التي قامت فيها انتفاضة 17 تشرين الشعبية والتي كانت تعاني فراغاً حكومياً بعد استقالة الرئيس سعد الحريري لم تر مناسباً إجراء احتفال مركزي فاقتصر إحياء الذكرى على احتفال رمزي أقيم في وزارة الدفاع وسط أجواء سياسية مشحونة وتعذر تأليف الحكومة. لكن الاحتفال الهزيل قابله احتفال شعبي كبير نظمته الفئات الناشطة في ثورة 17 تشرين حيث أقيم عرض شعبي في وسط بيروت شاركت فيه قطاعات مهنية وإنسانية مختلفة وشهد حماسة شعبية كبيرة افتقدتها العروض العسكرية في السنوات الأخيرة. لكن الثورة فشلت في استعادة زخم هذا العرض في ذكرى الاستقلال في العام 2021 فأتى تحرّكها ضعيفاً يفتقر الى الحماسة الشعبية بعد أن خبا وهج الثورة.

 

أما في العام 2020 وفي الذكرى 77 للاستقلال فقد غاب الاحتفال المركزي نتيجة جائحة كورونا وعلى إثر انفجار المرفأ وتفاقم الأزمتين المالية والسياسية في لبنان، ورغم تزامن الذكرى مع مئوية لبنان الكبير إلا أن لبنان الغارق في أزماته اكتفى باحتفال صغير. والأمر نفسه انسحب على الذكرى 78 حيث وللسنة الثالثة على التوالي أقيم في وزارة الدفاع اللبنانية عرض عسكري رمزي حضره الرؤساء الثلاثة عون وبري وميقاتي فيما اقتصر الحضور الوزاري على وزيري الدفاع والداخلية، ولم تتم دعوة أعضاء البرلمان وممثلي السلك الدبلوماسي في لبنان.