Site icon IMLebanon

عن أيّ استقلال تتحدّثون؟!

 

 

الحقائق في لبنان هي مُجرد وجهة نظر، كلّ يراها من منظاره وبمفاهيمه وتوجهاته ومعاييره!

البعض يربط استقلال لبنان الفعلي بذكرى خروج الانتداب الفرنسي من لبنان، والبعض الآخر يراه بخروج جيش الوصاية السوريّة، وغيرهم ربما رآه مرتبطاً بنزوح منظمة التحرير الفلسطينيّة، والحبل على الجرار. فأيّ استقلال أنجزناه، وأين نحن من حقيقة وجوهر الاستقلال؟

 

حتّى مراسم الاحتفال أخذت أشكالاً مُتعددة على مرّ السنوات. البعض يضع أكاليل الزهور على ضريح الجندي المجهول وأضرحة رجالات الاستقلال، ويقتصر البعض على حضور العرض العسكري، ويؤثر آخرون تقديم التهنئة في القصر الجمهوري، ويُفضّل غيرهم التغيّب الكامل عبر السفر خارج البلد.

أين الاستقلال المُنجز والعدو الصهيوني لا يزال يحتلّ أجزاءً من التراب اللبناني ويواصل بشكل شبه يومي خرق أجواء لبنان ومياهه وأرضه، ونحنُ نستضيف على أراضينا (ولو بغطاء دولي) قوات عشرات من الدول الأجنبيّة؟

أين الاستقلال المُنجز والكثير من القيادات اللبنانيّة السياسيّة وغير السياسيّة، تُسلس قيادها وتبعيّتها لمرجعيات خارجيّة؟

 

أين الاستقلال المُنجز وهوية الوطن ومفهوم المواطنيّة والشراكة والعيش المشترك في مهبّ الريح، وتحت رحمة التمزّق وعصف الخلافات بين الفينة والأخرى؟

أين الاستقلال المُنجز ومحطات لبنان السياسيّة تنتقل بين من يطعن بشرعيّة الرئاسة، ومن يطعن بدستوريّة الحكومة، ومن يطعن بصحة تمثيل النواب في المجلس النيابي؟

أين الاستقلال المُنجز وهناك أشخاصٌ مكتومو الجنسيّة، وأناس جائعون من دون طعام، ومرضى بلا علاج، وأمّيين بلا تعليم، ومُشرّدين من دون مأوى أو كساء، وموقوفون في السجون دون محاكمة؟

الاستقلال المُنجز ليس مُجرد علم يُرفرف ونشيداً وطنياً يصدح، وعضويّة في المحافل والمُنظّمات الإقليميّة والدوليّة، بل هو في التحرّر الكامل لتراب الوطن، وترسيم وتحديد حدوده البريّة والبحريّة، وتفرّد البندقيّة الشرعيّة في حماية أمنه، وترسيخ الحريّة الكاملة غير المنقوصة أو المُجتزأة للمواطنين، والمُساواة في الحقوق والواجبات.

الاستقلال هو في أساسه وحدة الشعب في نظرته إلى ماهيّة ومفهوم الوطن والشراكة في المواطنيّة، وهو في تحديد مَنْ هو العدو ومَنْ هو الصديق، وهو في استعمال الشعب للعُملة الوطنيّة من دون سواها، وهو في خلاص الناس من الفساد والاستغلال والمحسوبيّة والانتقائيّة والمُحاصصة والزبائنيّة، وهو في نهج الشعب تجاه العديد من المفاهيم سواء على الصعيد الاستراتيجيّ أو في التفاصيل، وهو في استقلاليّة القرار الوطني.

ومَنْ يتفحص الأمور في لبنان بموضوعيّة وعقلانيّة ورويّة، يرى اكتمال النذر القليل من شكليّات الاستقلال ومظاهره من دون جوهره، وتلفتُه المُحاولات البائسة من قبل البعض لتمويه هذه الحقيقة كمن يحجُب الغابة بواسطة شجرة أو غصن!

إن الاستقلال الحقيقيّ للبنان في خضمّ الصراعات الدوليّة والإقليميّة يستوجب العديد من التضحيات والعمل المُخلص الشاق الدؤوب من جميع أبنائه. فيما عدا ذلك نكون في وهم كبير، ونكون في الواقع نحتفل لمدى عقود ومن دون أن ندري، بعيد «استقلال فرنسا عن لبنان» وارتياحها من تحمّل أعباء طوائفه وعشائره وعصبيّاته ومُحاصصاته وأنانيّاته ومُناكفاته وسجالاته وفساده! ولعل الاستقلال الحقيقي هو حين ارتاحت فرنسا «واستقلّت» من عناء انتداب هكذا شعب بهذه العقليّة!

وإذا كان استقلال 22 تشرين الثاني 1943 قد تملّص من الانتداب الفرنسي، واستُكمل في 26 نيسان 2005 بالتخلص من الوصاية السوريّة، فنحن بحاجة ماسّة إلى استقلال يُطيح بالاستغلال والفساد المُتأصّل، والطائفيّة والمذهبيّة البغيضة، والتبعيّة والانقياد للخارج.

للأسف، لو كان الحَراك الشعبي الذي انطلق في 17 تشرين الأول 2019 أصيلاً، لكان تمكّن من إزالة صدأ الطائفيّة والمناطقيّة والزبائنيّة، وكشف المعدن الحقيقي للبنانيين: إبداع وتسامح ومُواطنيّة.

وضعُنا في لبنان مُضحك مُبكٍ في أفراحنا وأتراحنا، وإنّه من المُؤسف أنّنا بسلوكنا نُثبت مرّة جديدة، وللعالم بأسره، مقولة أنّنا غير أهلٍ للاستقلال، وأنّنا نحتاج إلى الوصاية والرعاية الدائمتين.

لم يبقَ لدينا الكثير من الفرص، لذا دعونا نفكر بعقولنا وليس بقلوبنا أو حناجرنا، وتذكروا أنّه إن لم يضمّنا وطننا فلن «يلمّنا» أحد.

بأي عيد وذكرى نحتفل اليوم؟ أهو استقلال… استغلال… استغفال… استهبال… أمّ أنّه الاستئصال من مُحيطنا العربي؟!

رحم الله الرئيس اللواء فؤاد شهاب القائل: «إن الاستقلال الحق لا يُؤخذ ولا يُعطى، إنما يُبنى».

عيدٌ بأية حالٍ عُدْتَ يا عيد!