IMLebanon

الاستقلال بين عدو يستبيح الأرض وابن بلد يستبيح الدولة

 

 

غاب وعاد وعاد وغاب… فمتى العودة نهائية؟

 

بين ذاك الإثنين في الثاني والعشرين من تشرين الثاني من العام 1943 ويوم الجمعة في الثاني والعشرين من تشرين الثاني هذا، يكون قد مرّ على استقلال لبنان واحد وثمانون عاماً. ثمانية عقود عرف فيها الاستقلال توهّجات وسقطات، بمعناه ورمزيته كما في احتفالاته ومراسمه. ذكرى خذلها لبنان مرات كثيرة واحتفالات بالذكرى غابت في محطات عديدة، أمنية، عسكرية، وسياسية غاب فيها رأس الدولة وغابت معه هيبة الاستقلال واحتفالاته.

 

 

أكثر من ثلاثة عقود نَعِم فيها لبنان باستقلال “ناجز” وكان الاحتفال السنوي موعداً رسمياً وشعبياً يقام في ساحة الشهداء في بيروت التي تمثل إرث الاستقلال في مواجهة الانتداب الفرنسي وقبله الاحتلال العثماني… فماذا عن “الاستقلالات” التي تلت هذه العقود والاحتفالات التي غابت؟

 

في الماضي كان العرض العسكري التقليدي لوحدات الجيش اللبناني والقوى الأمنية والكشفية يشكل العمود الفقري للاحتفال بالاستقلال ، تسير في طليعته عنزة ترمز إلى القدرة على التحمل في الجبال الوعرة في تقليد تعود جذوره وفق ما يقال إلى فترة الانتداب الفرنسي ويرتبط بتاريخ الفوج المجوقل في الجيش اللبناني. كانت الاستقبالات تتمّ في القصر الجمهوري في القنطاري قبل انتقالها إلى بعبدا في العام 1960 وانتقال الاحتفالات من ساحة الشهداء إلى الجادة الواقعة أمام المحكمة العسكرية انطلاقاً من ضريح الجندي المجهول. اليوم الاستقلال قاتم ملبد وبعبدا مقفرة.

 

 

انتظمت احتفالات الاستقلال سنوياً وكانت حدثاً رسمياً وشعبياً ينتظره اللبنانيون بحماسة وطنية في الساحات أو أمام شاشة تلفزيون “لبنان والمشرق” في نهار بث تلفزيوني طويل غير معهود، إلى أن اندلعت ثورة 1958 في عهد الرئيس كميل شمعون. وشهدت البلاد معها اضطرابات أمنية وسياسية كبيرة شكّلت تجربة أولية للحرب الأهلية اللاحقة، فتم تعليق الاحتفالات المركزية بعيد الاستقلال على أثرها بسبب التوترات القائمة. لكن مع نهاية الأزمة واستقرار الأوضاع عاد لبنان للاحتفال بعيد استقلاله. لكن البلد الذي كان يعيش فترته الذهبية في ستينات القرن الماضي كان يسير بخطىً حثيثة نحو الحرب الأهلية التي انفجرت في العام 1975 .

 

 

 

حرب غيّبت الاستقلال

 

22 تشرين الثاني من العام 1975 شهد آخر احتفال بعيد الاستقلال في عهد الرئيس سليمان فرنجية بعد أن دخل لبنان بدءاً من 13 نيسان الحرب الأهلية ومرحلة طويلة من الصراعات الداخلية. وعلى الرغم من التوترات الأمنية والسياسية، أقيم ذاك العام احتفال متواضع رمزي مقارنةً بأعوام العزّ السابقة في القصر الجمهوري في بعبدا وسط إجراءات أمنية مشددة غاب عنه العرض العسكري والمظاهر الشعبية.

 

 

خلال أعوام الحرب الطوال بين عامي 1975 و 1990 تأثرت احتفالات عيد الاستقلال المركزية بشكل كبير، وتم إلغاؤها مرات بسبب التوترات الأمنية والسياسية. وعندما كانت الظروف تسمح بتنظيم احتفال مصغّر، كانت المراسم تقتصر على استقبال رمزي أو عرض محدود وتتمّ غالباً في القصر الجمهوري في بعبدا في عهد الرئيس الياس سركيس ومن بعده الرئيس أمين الجميل. وما عاد ممكناً إقامة العرض العسكري في جادة الاستقلال في المتحف، بعد أن تحولت إلى معبر يكرس الانقسام بين شطري بيروت والوطن .

 

 

الحرب الأهلية وما رافقها من انقسام سياسي وجغرافي والاجتياح الإسرائيلي واحتلال جزء من الجنوب والوجود السوري الذي تحول احتلالاً كلها عوامل تركت تأثيرها على رمزية عيد الاستقلال وإضعفته كرمز للوحدة الوطنية والتخلص من سطوة الغريب. لكن الاحتفاء بذكرى الاستقلال لم يغب مرة وفق ما يقول د. نبيل شديد مدير عام المراسم والعلاقات العامة في القصر الجمهوري وكانت الاحتفالات احياناً تقتصر على وضع الأكاليل على أضرحة رجال الاستقلال وتنظيم احتفالات صغيرة في الثكنات العسكرية في كل منطقة .

 

 

 

فراغات رئاسية

 

انتهى عهد الرئيس أمين الجميل في 22 أيلول 1988من دون التوافق على انتخاب رئيس جديد فعيّن الجميل قائد الجيش حينها العماد ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية ما أدى إلى انقسام سياسي حاد بين الحكومة العسكرية في بعبدا وحكومة الرئيس سليم الحص التي بقيت قائمة في بيروت الغربية. وشكّلت تلك الحقبة أول تجسيد لغياب رأس الدولة وعانى لبنان من فراغ رئاسي جعل الاحتفال المركزي بعيد الاستقلال العام 1988مستحيلاً، واحتفلت كل جهة حينها – في الشرقية والغربية – على حدة وضمن منطقتها وثكناتها.

 

 

أما استقلال العام 1989 فشكّل ذكرى حزينة مع اغتيال الرئيس رينيه معوض بعيد أول احتفال له بعيد الاستقلال بعد 17 يوماً على انتخابه.

 

 

مع انتهاء الحروب وعودة “السلم الأهلي” عاد الاحتفال بعيد الاستقلال ليحتلّ موقعه المتقدم في روزنامة الدولة ويستعيد الاستقلال بعضاً من معانيه في عهد الرئيس الهرواي وبعده الرئيس لحود. وتجلّى ذلك بشكل خاص في العام 2000 حيث جاء الاحتفال غداة تحرير الجنوب من الوجود الإسرائيلي احتفالاً رسمياً وشعبياً كبيراً .

 

 

قبل انتهاء ولايته بيوم واحد في 23 تشرين الثاني من العام 2007 احتفل الرئيس إميل لحود بالاستقلال في وزارة الدفاع في اليرزة بعد فترة اضطرابات بدأت باغتيال الرئيس الحريري واندلاع حرب تموز، لتشهد البلاد بعدها فراغاً رئاسياً استمر 18 شهراً منع قيام احتفال مركزي بالاستقلال عام 2008 حيث يقضي القانون ان لا احتفال في غياب رأس الدولة، إلى أن تم انتخاب العماد ميشال سليمان في 2008 بعد اتفاق الدوحة الذي أنهى الأزمة السياسية في لبنان وجعل الأوضاع شبه مستقرة لستة أعوام.

 

 

عند انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في أيار عام 2014 عاشت البلاد عامين من الفراغ الرئاسي منع إقامة الاحتفالات الرسمية بالاستقلال. ليأتي عهد الرئيس عون بدءاً من تشرين الأول العام 2016 وينتظم لثلاث سنوات وتنفجر بعدها في وجهه ثورة 17 تشرين 2019. في تلك السنة شهدت ساحة الشهداء احتفالاً شعبياً أحيت عرضه “المدني” فئات مختلفة من المجتمع اللبناني آمنت بالثورة وإمكانية التغيير.

 

 

مع انتهاء عهد العماد عون في تشرين الأول من العام 2022 غاب رأس الدولة وغابت معه احتفالات عيد الاستقلال وغاب الاستقلال عن بكرة أبيه بين عدو استباح الأرض والأجواء وابن بلد استباح الدولة وسلطتها. فهل علينا أن نعيد ونردّد: عيد بأيّة حال يعود؟ لكن “مهما تأخر جايي”.