يلعبون بهذا الشعب المسكين… كانوا وما زالوا يتقاذفون وطنهم عن عمد، ومع سابق التصور والتصميم، ومع العلم الأكيد بأنه يعاني أمراضاً خطيرة، بعضها مزمن، خطورته تكمن في أصوله وفصوله وتعقيدات الماضي القريب والبعيد الكامنة في الكثير من أرجائه، وبعضها مستجد، مطبق على أنفاسه وعلى حاضره التعيس وعلى مستقبله المتروك للقضاء والقدر من خلال أياد محلية محتضَنة إقليميا، تعتقد أنها هي القضاء وهي القدر، وأن هذا الشعب مقضي عليه ومُقدّر له أن يبقى غارقاً في ربطه بإرادات ومناطحات خارجية النشأة، وباقتحامات سياسية وايديولوجية خارجية الصنع، حتى إذا ما نجحت قوانا الأمنية الذاتية متمثلة بجيشنا الذي «نحتفل» وإياه اليوم (لاحظوا معي كم هي موجعة كلمة «نحتفل» في سياق هذه الأيام) بعيد استقلالنا الخامس والسبعين، وهو عمر طويل، فرض على أجيالنا المتوالدة قبل ذلك الوقت وبعده جملة من المراحل المتلاحقة، إختلط فيها الحلو والمر، والجوع والشبع والتلاقي والتصادم، والإنكماش المعيشي والإزدهار الإقتصادي، ومن خلال هذا العيش المتناقض والمضطرب في أوضاعه، لا بد لنا أن نقرّ بأننا لم نفلح حتى الآن إلاّ في الحفاظ على بعض من ركائزه الأساسية ومن ضمنها الركيزة الأمنية التي ما زالت حتى الآن، ممسكة بالأمن برعايات ومظلات خارجية، أدركت حقيقة الأخطار التي يعاني منها الداخل اللبناني ومدى ما يلحقه أنقسامه إلى دولة، ودويلة، من تناقضات تتقاسم الأدوار فيها ثمانية عشر طائفة ومذهباً وعشرات الإختلافات التي سبق لاتفاق الطائف أن لملم الكثير من اهتراءاتها، إلاّ أننا اليوم، وفي صلب العواصف الهائلة التي تسود المنطقة والعالم بأسره، إذا بنا نفاجأ بهذه الهمروجات المفتعلة التي نتعامل خلالها مع هذه الأزمة الوطنية المستجدة والتي ألقيت بصورة مباغتة على جموع اللبنانيين فإذا بها قنبلة توقف تنفيذ التأليف الحكومي وتحرم الوطن من أن تكون له حكومة، في وقت هو أحوج ما يكون إليها، ولنستمع في ذلك إلى أجراس تحذيرية عالية الوقع والصدى، يطلقها الجميع، وقد عدّدهم مؤخراً، سماحة السيد في معرض احتجاجاته واعتراضاته ومطالباته بتوزير أحد أفراد المجموعة النيابية السنيّة المتمثلة أساساً في إطاراته السياسية المختلفة، فإذا بالتعداد المذكور يشمل كلاً من: فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس الحكومة المكلف وسماحة مفتي الجمهورية وغبطة البطريرك الراعي، والزعيم وليد جنبلاط (الذي لقي من سماحة السيد لفتة خاصة)، وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع، وكل من اعترض على هذه النزعة المفاجئة لتوزير يرفضه رئيس الحكومة المكلف، لأسباب ميثاقية ودستورية ووطنية شرحها مطولا وأيده في موقفه كل من ذكرنا، وغالبية مهمة من مجمل الشعب اللبناني الذي استغرب مع كل المستغربين تلك الرغبة التي أطلت برأسها بهذه الصورة المفاجئة والمباغتة والمسلحة بالكلام المصادم المهاجم والاصابع المرفوعة بوجه الجميع بعد أن غابت عن الصورة لمدة طويلة.
وفي صلب الإختناق وهذه الظلمة الذين سببهما قطع الهواء والنور عن التشكيلة الوزارية، أطلت على الجميع، جملة من الارقام الإقتصادية والمالية والإدارية المرعبة وأعلنت عنها وزارات الدولة ومؤسساتها سواء المتعلق بها بمالية الدولة التي لم يعد فيها قرش فائض في الخزينة، وفقا لتصريح وزير المالية، أم في الأرقام المتعلقة بالدين العام وبمستوى النمو الإقتصادي ويتوقعات الجباية وخطورة الوضع النقدي وعدد المؤسسات التجارية والصناعية المتوقفة أو هي في طريقها إلى التوقف عن العمل، وعن معدل البطالة في صفوف اللبنانيين والتي ناهزت الثلاثين بالمائة وعن وضعية خريجي الجامعات اللاهثين وراء فرصة الهجرة، بعد أن تعذرت عليهم فرص العمل في بلادهم، يضاف إلى كل ذلك، تلك التحذيرات الخطيرة التي تصل إلى ما تبقى لدينا من حكومة ووزراء وعهد جديد وعهود قديمة، وتحذيرات البنك الدولي والمسؤولين في دول عديدة صديقة للبنان، إضافة إلى عديد من المؤسسات الإقتصادية الدولية والإقليمية، وتصريحات عالية النبرة والتحذير صادرة عن خبراء اقتصاديين محليين وخارجيين، وكلها متعلقة بالوضع الإقتصادي المتدهور، وبحراجة التحديات أمام الوضع النقدي وبمطالبات مشفقة على لبنان ومتعلقة بنتائج مؤتمر سيدر وبالأبواب الواسعة التي يفتحها للبنانيين من خلال العقطاءات والقروض الميسرة التي يمنحها لهم لإنقاذ بناهم التحتية والفوقية وإعادة مسيرتهم الإقتصادية والمالية الى الطريق السليم، وصيحات ومراجعات المسؤولين الفرنسيين وفي طليعتهم الرئيس ماكرون الذين باتوا يلمسون مدى الضرر الذي سيلحق بلبنان إذا ما فوّت على نفسه فرص الإستفادة التي حققها للبنان بمجهود حثيث للرئيس سعد الحريري في هذا الصدد، وهي فرصة تكاد السياسات القاصرة والمتعثرة وخاصة تلك المربوطة بالحبال والحبائل الخارجية أن تلغيها من الوجود، عن سابق تصور وتصميم،علّها بذلك تخدم التطلعات الخبيثة، والمغرضة التي تستهدف خلخلة أسس النظام توطئة لتعديلها إن لم يكن لإلغائها تماما، طمعا في استحداث نظام آخر يمسك بمفاتيح الحكم والسلطة جمعاء.
ما زلنا في لبنان وحتى الأمس القريب فقط، غارقين في ولدناتنا وصغائرنا وكل ما من شأنه أن يدل على أننا في طليعة الشعوب المتخلفة التي لا تكترث للزلازل المحيطة بها ولا للأزمات الخطيرة التي تطاول كياناتها، ولا تتوانى عن التواطؤ مع مصالح الدول العظمى والكبرى على حساب شعبها ومواطنيها، وصولا في ذلك إلى تموضعات خاطئة تتبادل من خلالها أعمال الطعن بالظهر والبطن وكل أنحاء أجساد أوطاننا المتهالكة والمهددة بالإنهيار والسقوط.
وقانا الله من شرّ أفعالنا، خاصة منها تلك الواقعة في خانة: عن سابق تصور وتصميم.