منذ حطت طائرة الرئيس سعد الحريري منتصف ليل الثلاثاء على أرض مطار رفيق الحريري الدولي، حبس اللبناني أنفاسه مترقباً المرحلة المقبلة من التاريخ اللبناني وفق حركة الرجل العائد مع موجة صقيع ضربت البلد معلنة الانتقال من الخريف الى موسم المطر. فكان السؤال: «هل المطر الشديد فأل خير أم أنه في الحالة اللبنانية غرق في مجهول المستنقع الاقليمي؟».
انتظر اللبناني الساهر في تلك الليلة عله يتلمّس المشهد: أبيض أم أسود أم رمادي، مكللاً بحزن عميق تجلّى في عيون الابن الحريري في حضرة الأب الشهيد، حيث الأضرحة تحكي قسوة عهد ومرحلة، وحيث كانت محطته الأولى، وكلمته الأولى على أرض الوطن بعد إعلان استقالته المفاجئة قبل نحو أسبوعين: «شكراً للبنانيين». «شكراً» ألهبت شعباً على جمر الانتظار ريثما يطلع فجر الاستقلال الـ 74.
شعب على الرغم من انقساماته ونزواته، ثبت أنه تعلم من أخطاء الماضي الأليم، خلافاً لكل النعوت التي تلبسه، وكل الصبغات التي تلون أطيافه، ليتدرج في الوطنية من «التعصب الأعمى» وما نتج عنه من خراب ذات حرب عبثية، إلى «مواطن عنيد» برتبة «وفي». مواطن يستحق شكراً من القلب، وشعب في وحدة موقفه وكلمته وثباته في الأزمة «التشرينية» الأخيرة، إنما علّم العالم بدوله ورؤسائه ومحاوره، أن التجربة اللبنانية ما عادت تبهرها «الوجبات الجاهزة» في مطابخ السياسة العالمية، وأن سعد الحريري ليس رئيس حكومة لأنه ابن شهيد فحسب، وإنما لأنه بعد نحو 12 عاماً من المخاض اللبناني المتعثر، ومن حمل الأثقال وتدوير المشكلات وزوايا الحلول، غدا يشبه بلده، عصيّاً على الكسر، مرناً، ودوداً، طيّب القلب، مع ابتسامة لا تفارقه في أحلك المواقف.
وفي وجه الشبه، وفي تطابق الأحلام والتوجهات والرؤى، تشكل الشعار الأخير: «لا سعد..من دون سعد»، ذلك أن الأخير من صنيعة الشعب اللبناني، وهي حقيقة لم يدركها اللبناني نفسه إلا حين وُضع أمام اختبار: «ماذا بعد الاستقالة؟»، و«ماذا بعد سعد الحريري؟»، فكانت اللاءات الكبرى في وجه كل الطروح وما حيك من روايات حولها، والـ «نعم» الوحيدة لعودته إنما ليكمل المشهد الاستقلالي صباحاً كرمى للشهداء الذين تقاطروا في سبيل أن يبقى الوطن.
وهناك حيث ساحة جادة شفيق الوزان، كانت كاميرات العالم تنقل في بث حي، المشهد «الاستقلالي» الذي صنعته الارادة اللبنانية حيث لا مقاعد شاغرة، وإنما قلوب اجتمعت في ظلال لافتة عملاقة توصي:«بلادك ألبك اعطيها»، وعلى صورة تناقلتها وسائل الاعلام العالمية، بالوقع نفسه على المشاهد اللبناني: ذلك العناق بين الرئيسين عون والحريري، وفي المشهد نفسه يربت الرئيس بري على كتف رئيس الحكومة العائد من جولة «مكوكية». وفي المقلب الآخر من احتفالية الاستقلال، كان المواطن يصفّق لحكمة شعب تعلم في الصغر أنشودة الحياة: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر»، فكان أن تسلح بها متأخراً مغيراً هذه المرة في اتجاه العواصف، وإن بقي على خوفه من الطرح: «ماذا بعد العرض العسكري؟»، هل تكون الاستقالة؟ وهل يمكن للرئيس سعد الحريري الذي بدا باسماً ومرتاحاً وممازحاً خلال العرض العسكري أن «ينغّص» على اللبناني فرحته في العودة وفي الاستقلال وفي المشهد الوحدوي الجامع؟، ولاسيما أنه لم يكن مجبراً هذا العام على تقديم «البون بون» لترطيب الاجواء بين الرئاستين الأولى والثانية، إذ أنه كان «العائد» المحتفى به كثيراً من «بي الكل»، ومن «الأستاذ» الذي رافق رئيس الحكومة الى قصر بعبدا في سيارة الأخير المرسيدس. فكان لقاء الـ 15 دقيقة، أشبه بساعات جاثمة على قلب اللبناني الذي استبشر خيراً بملامح الحريري الابن، وهي ملامح تسهل قراءتها من دون الاستعانة بخبراء الجسد وعلماء النفس، إلا أن المحللين على شاشات التلفزة ظلوا يؤكدون بأن «الاستقالة» واقعة في قصر بعبدا، وهي ليست الا مسألة دقائق يصل معها البلد الى نفق مظلم، إلا أن المواطن العادي في الشارع تمسك بحدثه راجياً: «يا شيخ سعد خلّيك بنحبك..». أما زوار قصر بعبدا، والذين وصلوا على حماستهم مهنئين قبل وصول الرؤساء الثلاثة، فكان عليهم انتظار خلوة ثلاثية، وأخرى ثنائية، قبل أن تصير وجهتهم جميعاً الى المنصة المثبتة أمام مجسم مماثل للنصب المرفوع في ساحة الشهداء، وقد توسط البهو الداخلي للقصر والى جانبه العلم اللبناني.
هناك وقف الرئيس الحريري ليحكي في السياسة وفي أوضاع البلد وفي الاستقالة، بعد أن عزف لأيام في جولاته الخارجية عن الخوض إعلامياً في الحيثيات، ومن حوله كانت العيون شاخصة في فحوى الخطاب المؤجّل، وكأن الجميع دخل في «الصدمة الايجابية» التي سبق أن تحدث عنها في مقابلته التلفزيونية من الرياض، ليصبح محور ما يريد الجميع التقاطه: «لقد عرضت استقالتي على فخامة الرئيس الذي تمنى علي التريث في تقديمها لمزيد من التشاور في أسبابها وخلفياتها فأبديت تجاوباً مع هذا التمني، آملاً في أن يشكل حواراً يعالج المسائل الخلافية وانعكاساتها على علاقات لبنان مع الأشقاء العرب». وكانت تلك العبارة كفيلة بأن تدفع المناصرين الذين تجمهروا في ساحات بيروت في سابقة تعيد التذكير بـ «الاستقلال الثاني»، إلى عقد حلقات الدبكة والى إطلاق الزغاريد والبالونات الحمراء والزرقاء، وكأن البلد استعاد عافيته، والأهم قراره الحر الذي ظل مسلوباً لسنوات، فأن يقول الشعب: «الحريري راجع.. يعني راجع». فإذا بأول تغريدة بعد إعلانه التريث في الاستقالة: «لبنان أمانة غالية أودعها الشعب اللبناني في ضمائر كل الأحزاب والتيارات والقيادات، فلا يجوز التفريط بهذه الأمانة. حمى الله لبنان وحفظ شعبه الطيب».
ولعل المشهد الأكثر تأثيراً في يوم الاستقلال المنتظر على «استقالة» أو «لا استقالة»، تلك الحشود التي زنّرت بيت الوسط وقلب العاصمة بيروت بالحب والوفاء للرئيس الحريري الذي أطل من شرفة بيت الوسط لاستقبال «جمهوره» و«محبّيه» الذين حضروا من جميع المناطق، وبشكل عفوي بكى أمامهم خلال لحظات «الوفا» و«الصدق».. بكى، فعانقته عمّته مطولاً. غاب لدقائق تمالك بعدها دموعه، ليراقب المشهد من جديد. كانت عينه على المسنّة التي تعاند سنوات عمرها والزحمة والصخب من حولها لتقول له: «يا ابني إنت أمانتنا». كانت عينه على الأمل الذي يلمع في عيون شباب وشابات أحبوه ووثقوا به منذ خاطبهم في بيان حكومته الوزاري: «إنتو الأمل..وواجبنا نساعدكن». كانت عينه على أطفال احتفلوا بالعيد بالزي العسكري والعلم اللبناني وصوره التي تحمل عبارات الحب والوفاء والتأكيد على عودته. كانت عينه على السلسلة البشرية التي جددت في عينيه وصية الرئيس الشهيد رفيق الحريري في أن «خللي عينك على البلد». وكانت عينه على الحمام الزاجل الذي يحضر في كل المناسبات الوطنية مرفرفاً مثل شارة خير وسلام. وكانت عينه على عائلته الكبرى، على عمّته، أقاربه، أصدقائه، وكل من آمن بحق البلد في أن ينعم بالنأي بالنفس بعيداً عن قنوات الموت والقتل على الهوية والعقيدة والفكر والكلمة الحرة. كانت عينه على كل متحرك في المشهد المفتوح أمامه على بلد حر أبيّ معافى، وفي تتبّعه المشهد اللبناني الذي رسمه اللبنانيون بإرادتهم وثباتهم، ما كان من الممكن ان يخاطبهم بغير لغة القلب، وبغير النبرة التي تهدجت بأكثر من «شكراً، وشكراً، وشكراً..»، الى مصارحته جمهوره في أن «اللقاء مع الاهل الحقيقيين تسمى لحظة الوفاء لانكم تعلمون العالم الوفاء»، الى توصيف اللحظة برسم: «التاريخ والجغرافيا»، وصولاً الى اعتداده بالوفاء الذي لقيه: «الذي لديه عيون ترى فليرى، والذي لديه اذنان فليسمع، هذه لحظة قلب سعد رفيق الحريري..».
وإن حرص الرئيس الحريري على الترحيب بضيوفه من باحة بيت الوسط مؤكداً: «بيتي بيتكم..بيت الوسط، بيت أهل الاعتدال والاستقرار»، ومؤكداً أنه: «باق»، وأن زياراته ستشمل: «عكار والمنية والضنية وطرابلس والقلمون وكل الشمال، وكل البقاع وصيدا والجنوب والاقليم والشوف وجبل لبنان..»، فإن عاطفته تغلبت على الهواجس الأمنية معانداً تعليمات فريقه الأمني، ليترجل الى حديقة منزله والى الساحة المقابلة، معانقاً الأطفال الذين تصرفوا بعفوية مبدين حرصهم على التقاط السلفي معه، وملقياً السلام على الحشود التي كانت تهتف: «سعد سعد سعد»، و«ألله حريري طريق الجديدة»، و«انت ضمانتنا..ما تتركنا»، و«عالوعد نكمل دربك»، وفي اندفاعته الى الجماهير من حوله، وحرصه على مصافحتهم فرداً فرداً، ثمة درس وطني تكتبه السياسة اللبنانية بفصول من حب وإرادة: لا صلة الدم ولا المال ولا الخطابات الرنانة تصنع زعيماً لبنانياً لكل الفصول..وحده الموقف يصنع بلداً، وقد أعلن رئيس الحكومة اللبنانية موقفه: «ليس لدينا اغلى من بلدنا ومبدأنا لا يتغير وشعارنا سيبقى لبنان أوّلاً..وسنكمل سوياً لنكون خط الدفاع عن لبنان واستقراره وعروبته».