IMLebanon

الاستقلال… غير المستقل!

 

بسبب الاختبارات السابقة التي مارسها السياسيون اللبنانيون طوال حرب استمرت خمس عشرة سنة، أصبح الفراغ الحكومي أمراً طبيعياً لدى مختلف أطراف النظام.

 

 

والكل يذكر أن شغور منصب رئيس الجمهورية استمر سنتين ونصف السنة، قبل أن يعلن سعد الحريري تأييده ترشيح رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» ميشال عون لرئاسة الجمهورية. وكان ذلك يوم الخميس من تشرين الأول (اكتوبر) 2016.

 

وقد استمر أكثر من ساعتين في استعراض الدوافع الشخصية والوطنية التي فرضت عليه اتخاذ مثل هذا القرار الصعب. أي القرار الذي أخرج لبنان، بحسب رأيه، من حال الفراغ والضياع والشلل.

 

وبعد الانتهاء من إعلان الترشيح في مقر إقامة الحريري، وصل ميشال عون يرافقه صهره جبران باسيل الى المقر المذكور حيث استقبله سعد ونادر الحريري. وعلى الفور عقد العماد وسعد خلوة اتفقا خلالها على القواعد الأساسية لتعاونهما. وقد اختصرها عون بهذه الكلمات: «أنا مرشح لأكون رئيساً لكل اللبنانيين، وحارساً لسيادتهم وحريتهم واستقلالهم.»

 

في التكليف الثاني لتشكيل الحكومة الثانية، جوبه الرئيس سعد الحريري بعوائق داخلية وخارجية لم تكن في الحسبان. وقد تعرض لمفاجآت غير متوقعة كان أخطرها خطاب أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي نسف كل المحاولات الرامية الى متطلبات التوافق اللبناني. وهو شرط مطلوب لإنجاح التشكيلات الحكومية.

 

التحاليل السياسية، التي اجتهد مطلقوها من أجل تفسير خطاب السيد نصرالله، أجمعت على القول إن نسف عملية تشكيل الحكومة اللبنانية كان بمثابة تهديد علني موجه الى الولايات المتحدة والسبب أن واشنطن باشرت في عرض اللائحة الثانية من العقوبات ضد ايران. وبما أن كل الدول الغربية مهتمة بتثبيت الاستقرار في لبنان، فإن تأجيل تشكيل الحكومة يدفع الوضع العام الى حافة الإنهيار، خصوصاً إذا تأجلت الاستحقاقات المرتبطة بتطبيق إصلاحات مؤتمر «سيدر» المالية والاقتصادية. وفي حال تفاقم الدين العام، فإن تراكم العجز سيفشل في تغطية الاستحقاقات المقبلة.

 

على هامش هذه الأزمة الصامتة، يرى عدد من الشخصيات المسيحية المعارضة أن موقف السيد نصرالله لا يخلو من أبعاد داخلية موجهة الى رئيس الجمهورية ميشال عون. والسبب كما يراه هذا الفريق، يتعلق بإصرار الرئيس على تكليف سعد الحريري بإنجاز مهمته ولو تأخرت أطول مدة ممكنة. وهو يبرر هذا الإصرار بالوفاء للشخص الذي أوصله الى كرسي الرئاسة. صحيح أن «حزب الله» لم يحِد عن تأييده للعماد عون رئيساً للجمهورية… ولكن الصحيح أيضاً أن سعد الحريري هو الذي فتح الباب الموصد الذي دخل منه عون الى قصر بعبدا.

 

واليوم، يبدو أن قيادة «حزب الله» لم تعد مطمئنة الى تمثيل سعد الحريري داخل طائفته بسبب ارتباطه بالمملكة العربية السعودية، وعزوفه عن محاورة الرئيس السوري بشار الأسد. لذلك أبرز الحزب على قائمة البدائل عدة أسماء بينها عبدالرحيم مراد وفيصل عمر كرامي. واستطراداً لهذا الموقف المتحول، لوحظ الأسبوع الماضي أن أصدقاء المقاومة راحوا يكيلون المديح عبر شاشات التلفزيون للدكتور سمير جعجع، رئيس حزب «القوات اللبنانية»، والترجمة الصحيحة لهذا المديح المفاجئ العمل على إرباك صهر الرئيس جبران باسيل الذي يتوقع من «حزب الله» تأييده للرئاسة سنة 2022.

 

ويُستدَل من دوافع المصالحة التي رعاها البطريرك الماروني بشارة الراعي، أن رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع يتطلعان بفضول الى معركة الرئاسة سنة 2022. كما يتطلعان أيضاً – بعد أربعة عقود من القطيعة – الى التحولات السياسية المتوقعة من السعودية بعد انتهاء حرب اليمن، ومن دمشق بعد نشر سلطة بشار الأسد على مساحة سبعين في المئة من الأراضي السورية. وفي حال بقي الأسد على وعده لسليمان فرنجية، فإن «حزب الله» لن يشذ عن هذا الخيار.

 

وسط هذه الأجواء السياسية الملبدة، احتفل اللبنانيون يوم الخميس الماضي بعيد الاستقلال الـ 75. وهو عيد تقليدي تم تحديده رسمياً عقب تنظيم انتخابات نيابية جرت سنة 1943. وقد أدت تلك الانتخابات الى اختيار الشيخ بشارة الخوري رئيساً للجمهورية وتعيين رياض الصلح رئيساً للحكومة.

 

ولما أعلنت حكومة الاستقلال انتهاء الانتداب، ردت السلطات الفرنسية باعتقال رئيسي الجمهورية والحكومة ومعظم الوزراء. وعلى اثر احتجازهم جميعاً في قلعة راشيا، انفجر الشارع اللبناني غضباً وسخطاً، الأمر الذي إضطر المندوب السامي الفرنسي الى إلغاء اجراءاته والرضوخ للضغوطات الشعبية. وبما أن عملية الإفراج عن المعتقلين تمت في الثاني والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، لذلك أصبح هذا التاريخ مناسبة للاحتفال باستعراض الفئة الحاكمة التي اجتمع أعضاؤها تحت العلم اللبناني. علماً بأن «القبائل» اللبنانية تملك أكثر من عشرة أعلام مختلفة.

 

والملاحظ في هذا السياق أن الجماهير التي كانت تتجمع حول المنصة قد خفت أعدادها سنة بعد سنة. والسبب أن الوعود التي أطلقها الرئيس ميشال عون في مطلع عهده لم يتحقق منها إلا النيات المخلصة. ولكنها فعلياً لم تُنفذ كما توقع المواطنون. وهم يتذكرون كلامه عند أول إطلالة بعد انتخابه. وقد صرح بذلك أثناء خروجه من بكركي:

 

«إن أكثر ما يؤلم وطننا في هذه المرحلة هو الفساد المستشري الذي سدّ شرايين الدولة وجعلها في حال عجز دائم.»

 

وعزا الرئيس «سبب الفساد الأساسي الى الانحطاط الذي ضرب المجتمع بحيث أصبحت كل مرتكزات الحكم خارج نطاق الكفاءة والأخلاق.»

 

وختم تصريحه بالعبارة التالية: «إن كل عمل سلطوي لا يحترم بمعاييره القوانين والأخلاق يصبح جريمة، لأنه يسبب الأذى للأفراد وللمجتمع»!

 

ويُستدَل من مراجعة ذلك التصريح المقتضب أن الرئيس عون كان عازماً على استئصال شأفة الفساد التي زرعها العهد السابق، والتعويض عنها ببناء عهد نقي ومختلف، لذلك توقع اللبنانيون منه تنفيذ تعهده بأقصى سرعة ممكنة. وبعد انقضاء نحو من سنتين من عهده، ازدادت شكاوى المواطنين بسبب الإهمال الذي يلقونه من المؤسسات الرسمية، ومن عجز هذه المؤسسات عن تلبية حاجات الناس. والمؤكد أن انشغال الدولة بالدفاع عن مواقفها السياسية ضد خصومها الكثر جعلها تهمل واجباتها الاجتماعية والصحية والاقتصادية والمعيشية حيال جماهير بدأت تهدد بإشعال ثورة أهلية ثالثة.

 

روى المرحوم الرئيس تقي الدين الصلح أنه كان يزور صديقه المرحوم الرئيس شارل حلو مرة في الأسبوع. وكثيراً ما كان يسأله عن ادائه في الحكم وماذا يقول المواطنون في عهده.

 

وصارحه تقي الدين في إحدى المرات، وقال له: إن اللبنانيين يتحسرون على عهد الانتداب. ولما سأله الرئيس عن السبب، أجاب: «قبل الاستقلال كان اللبنانيون شعباً منتدباً وفرداً حراً… أما اليوم فالشعب أصبح حراً بينما الفرد يعاني من «انتداب» الدولة!

 

وعلى الفور أخذ شارل حلو ورقة وقلماً، وطلب من تقي الدين إعادة العبارة التي ذكرها لأنه يريد تسجيلها في مذكراته.

 

وعلق البك على تصرف الرئيس بقوله: إترك الكتابة علينا… وإهتم يا فخامة الرئيس بالحكم!

 

وهذا ما يتوخاه الشعب اللبناني من رئيس أقسم أن يحكم حسب القانون والعدالة والدستور، فإذا لبنان في عهده يتحول الى لبنانَيْن، مذكراً بالعبارة التي كتبها جورج نقاش، «سلبيان لا يشكلان دولة!»

 

والمؤسف أن الثورتين اللتين فجرهما اللبنانيون سنة 1958 وسنة 1975، لم تكونا أكثر من تعبير دموي لوطن مشطور بسكين الطائفية والمذهبية والعشائرية والمناطقية والفئوية.

 

وبلغ من شدة تأثير هذه الاتجاهات المتعارضة أن نبتت عند جذورها مؤسسة إصلاحية عنوانها: «لبنان واحد.»

 

وكان المرحوم الرئيس صائب سلام أول مَنْ أطلق هذا الشعار رداً على حملات التقسيم والتجزئة والانفصال.