غالبا ما يرى اللبنانيون روابط «استراتيجية» بين أزمات لبنان وسياسات الدول الكبرى. ولا تغيب عن مخيلة البعض نظرية المؤامرة المتواصلة، وهي بنظرهم لا تُخطئ، أي انها دائما ناجحة وصائبة، أشهرها في الحقبة المعاصرة مؤامرة كيسنجر الذي جعل من لبنان، بحسب أصحاب هذه النظريات، شغله الشاغل منذ سنوات. لكن هذه المرة، أزمة النفايات خذلت الجميع، فمن الصعب ربطها بالمؤامرة أو إيجاد علاقة سببية بين النفايات المرمية على حواف الطرق واتفاق فيينا، مثلا، أو أزمات اليمن والعراق أو الصدام بين أوباما ونتنياهو. ولا هي أزمة مرتبطة بالدستور وميثاق العيش المشترك، والمشترك اليوم روائح النفايات على امتداد الوطن، ولا هي طبعا متصلة بمسائل تخص الدين أو أي عقيدة أو معتقد.
إنها ببساطة محاصصة سياسية ـــ مالية «طلعت ريحتها» هذه المرة، خلافا للمرات السابقة عندما تم تثبيت عقد النفايات خلافا للقانون، بحسب قرار ديوان المحاسبة في 1999، لمصلحة الشركة المحتكرة (سوكلين) المدعومة من قوى سياسية معروفة وجامعها الصندوق الأسود الذي يوزع على أهل الحل والربط منذ نحو عقدين. تأسس نظام المحاصصة الحالي في زمن الوصاية في مطلع التسعينيات واستمر بعد خروج الجيش السوري في 2005. ومن مظاهر قوته وصموده استحالة إيجاد الحلول العملية لمعالجة النفايات بحسب المعايير والأساليب المتبعة في دول العالم كله.
سقطت الذرائع والحجج ولم يعد الناس رهائن لأصحاب النفوذ. سقط القناع فباتت الأمور مكشوفة، والحراك الشعبي خير دليل على خروج الاعتراض العام من القمقم. ولا خلاص من حالة العجز سوى بالفرز من المصدر، أي فرز النافذين من السياسيين عن المحاصصة ووضع حد لسلوك الاستخفاف بالناس. إنها مناسبة لفرز نفايات نظام المحاصصة الخاضع لحماية محلية فاعلة للاستئثار بالمال العام بكل الأساليب الملتوية الممكنة. إنه فساد صنع في لبنان وبتقنية عالية، ومن أجل تقاسم المغانم بين قلة من اللبنانيين.
إنها ايضا مناسبة للعمل الجاد لنقل مسؤولية الشأن العام الى الهيئات المحلية المنتخبة، الى البلديات واتحاداتها، ولتكن امتحانا لممارسة اللامركزية في الشأن العام مع وضع الضوابط والمعايير البيئية المناسبة من الدولة. مركزية القرار في أزمة النفايات سقطت وحلت مكانها لامركزية الروائح. أولى ضحايا تسلط القرار المركزي، البلديات، المحرومة من حقوقها، ويتم التعامل معها على قاعدة انها بحاجة الى وصي يرعى شؤونها فيأخذ «أتعابه»، وذلك بمصادرة الإيرادات المتوجبة لها من الدولة وهي تتجاوز المليار دولار.
انتفاضات العالم العربي تمحورت حول فائض السلطة وطالبت بحصرها ديموقراطيا وبالمحاسبة في شؤون الحكم كافة. انتفاضة 2005 في لبنان طالبت بالحرية والسيادة والاستقلال. انتفاضة الاستقلال من المحاصصة في 2015 تتمحور حول استعادة الدولة دورها في الشأن العام بشفافية ومسؤولية. «الشعب يريد إسقاط النظام»، مقولة جائزة في دول الجوار العربي التي سقط حكامها، بينما لبنان لا يزال يبحث عن دولة فاعلة وعادلة ونظام حكم خارج إطار المحاصصة الفاسدة والمفسدة، ولا يبدو الى الآن أن شعوب لبنان المتباعدة تريد إسقاط نظام المحاصصة القائم على زبائنية أثبتت جدواها في الاتجاهين، أي بالنسبة الى الحاكم والمحكوم.
صحيح أن النقمة عارمة، إلا أن التعميم لا يفيد ومروحة المطالب الواسعة تبعثر الأهداف والإمكانات. حالة الاعتراض حافلة بالمطالب المحقة التي تؤثر في حياة الناس اليومية. إنها تظاهرات احتجاج عصرية، تظاهرات ما بعد الحداثة بمعنى أنها تأتي من خارج سياق السياسات التقليدية وحتى الايديولوجيا والمواقف الجامدة التي غالبا ما طبعت تظاهرات لبنان الكبرى، لا سيما عشية اندلاع الحرب في السبعينيات.
يبقى أن العلة تكمن في بنية نظام المحاصصة المحصن سياسيا وماليا وإداريا. الفلتان قائم منذ عقود والإمعان متواصل في استغباء الناس. فبين التظاهرة الأولى والثانية، تم قبول فضّ عروض مناقصات معالجة النفايات ورفضها من الجهة نفسها.
آن الأوان لإنهاء نظام المحاصصة فتعود الشفافية الى عمل مؤسسات الدولة وتستعيد المحاسبة الفعلية مكانتها في هموم الناس وأولوياتهم.