انتفاضة لبنانية شجاعة جرَّتنا إلى لعبة “صولد”
انتفاضةٌ تستخدم خطابَ خصومِها، هل يمكن أن تنجح؟ في جوانب كثيرة، العبارات والشعارات والذهنيات وأنماط المنتفضين، تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن خطاب نقرأه ونسمعه من مئة سنة. وجوهٌ وأسماءٌ تَعْبُرُ في التجربة اللبنانية كأنها خُلِقَتْ باللّسان ذاته. صحيحٌ أن الخطاب، الكلمة الإنكليزية أدق RHETORIC، لا يُحدِّدُ علمياً معدن الانتفاضة، إلا أن “الانتفاضة تُقرأ من خطابها”. لنستَلَّ نمطَ تفكيرٍ ونتوسَّعُ به. عند المنتفضِين والمنتفَضِ عليهم اقتناع بأن الحرب التي وقعت، قذرة وشريرة.
وتالياً، محاربو تلك الحرب قذرون وأشرار ومتعصِّبون لطوائفهم، إلى ما هنالك من نعوت. وإذا أصدروا أحكاماً تخفيفية، وصفوا المحاربِين بالمضَللَّين، وزعماءهم بأدوات الخارج. واختصاراً برأيهم لم تكن الحرب حرباً تستحقُ أن تندلع.
كانت تطاحناً بين “ميليشيات”. ولربما لا يزال لبنان يُعاني ما يُعاني، ولو من دون مدافع ودبابات، لأن تلك الحرب لم تُنصفْ، ولم تُزَن بميزان الصدقية والعقل، وتخضع للنقد البناء، والمراجعات النزيهة. يبدو من الأسهل على المنتفضين كيل اللعنات والشتائم على ما بدأ في العام 1975، وعلى ما استمر بعد العام 1990. “أمراء حرب تركوا المتاريس وتمترسوا على كراسي السلطة وعاثوا فساداً كما عاثوا في الحرب قتلاً ودماراً”. لا تجديد في خطاب الانتفاضة في هذا الجانب.
ليس هنالك “فكر ثوري”. والثورة الفكرية ليست باجترار المبادئ، بل باجتراح حلول ومسالك ومناهج غير تقليدية. وهنا تكمن “الثورية”. “والانتفاضة على الذات” قبل الآخرين. الثورة ليست “قم يا فاشل لأقعد محلك”. هذا المنوال لا يحل عقدة. الأميركيون “قبلوا” حربهم الأهلية، بمعنى انهم اعترفوا بانها وقعت وكانت لها حسنات وسيئات، هذا القبول وضع “الحرب الأميركية” في مصاف التراث التاريخي للدولة الأقدم في تطبيق الديموقراطية. هنا لا تزال “حربنا” أو “حروبنا” تحت ستارة النكران، أو اللعن.
هذا المنحى لا يمكن التأسيس عليه. هذا الإنكار دعسات ناقصة لا خطوات في الاتجاه الصحيح لبناء الدولة. ثم من قال إن تغيير الطاقم، وعدم تغيير الخطاب، يحلّان مشكلة عمرها سنوات وسنوات؟ وحتى نقف على خط بداية صلبة، اقترح للمناقشة الأفكار الآتية:
أولاً: الحرب التي وقعت، خاضها كل اللبنانيين. هناك من حمل البندقية، وهناك من حمل أفكار حاملي البنادق. وهناك من اغتبط لأن غيره حمل عنه البندقية، فسكت عندما وقع القتال، ونطق عهراً عندما جاء زمن اللعنات. وهناك من خاض الحرب برفضها ورفض وسائلها ورفض منطق من تحاربوا. هذه الفئة أصدق ممن استغل دم الآخرين ثم غسل يديه، أو تباهى بيدين لم تتلوثا بدم. المقصود أن للحرب أسباباً عميقة وليست سطحية وشريرة. وبشاعة الممارسات لا تلغي عمق الأفكار التي تطاحن بها اللبنانيون سلماً وحرباً. وتالياً، “الفكر الثوري” يقوم على التصالح مع تلك الحرب والمتحاربين. مصالحة نابعة من الضمير الصادق والوجدان النظيف. هنا يمكن أن تكون الانتفاضة “ثورية” أو على طريق الإتيان بتجديد وتغيير وعصرنة ورقي إنساني.
ثانياً: الواقعية يجب أن تطرد الأوهام والأحلام السطحية. أيها المنتفضون، لم ينتقل خصومكم بعد إلى الهجوم المضاد، هم ليسوا خائفين منكم. هم يقيسون بمقياس آخر. حسنٌ، غداً ينزلون إلى الساحات الألوف ويستعملون “فائض الحشد” عليكم. غداً تقوى نزعة التخوين. بأدواتكم يضربونكم ويقسمونكم ويفرقونكم. إذا قلتم “فاسدين” قالوا “خونة”، وكل من زار منكم جمعية أو جامعة أميركية سيصبح “عدو الشعب”. لا، ليس كل الشعب معكم. كل الشعب يريد ما تريدون، ولا يريد ما لا تريدون. ولكن الخلاف كل الخلاف على “كيف”؟ وعلى هذه “الكيف” أنتم وأنتما، وهم وهنَّ، ونحن منقسمون.
التمسك بالخطاب الاتهامي والرفضي للطاقم السياسي، على أحقيته، يترك مجالاً لأسئلة من نوع: من يستطيع أن يجزم أن من ردّدوا تلك الشعارات والخطب، قبل عشرين سنة، لم يكونوا صادقي النية، ولكن عوامل أخرى تدخلت فأفشلتهم؟ والسؤال الأهم: من يضمن أن المنتفضين لن يتحولوا فاسدين بعد حين؟ هل كل الطبقة السياسية فاسدة، وأنتم من طينة بشرية أخرى؟ من يضمن بعد نزاهةِ شهرٍ أو سنة ٍأو سنتين، لن تتدخل عوامل قاهرة وتجعلكم طبقة سياسية فاسدة وربما أفسد؟ على أساس أننا في لبنان نترحم دوماً على ما قبل، فيروح الفاسد ليأتي الأفسد، وينقرض العاطل ليأتي الأعطل. إذا كانت “الثورة تأكل أبناءها”، فمن قال إن الانتفاضة لا تتمتع بشهية الأكل؟ ومن يتفحص في وجوهٍ وأسماء تجول في الساحات وعلى وسائل الإعلام، لا يحتاج إلى عناء كبير ليشعر بالنقزة.
ثالثاً: المطلوب “فكر ثوري” ينتشلنا من حفر الخطاب القديم. منهج جديد. علمي وعصري وإنساني. أيها المنتفضون، نحن منكم ومعكم، إذا خرجتم إلى مساحات جديدة وآفاق جديدة. كتبت مرة “لا تكونوا عونيين صودف انهم لا يحبون الحالة العونية”. تركيزي على هذا المثل لا أقصد منه التحامل، بل الصدق لأن “الحالة العونية” هي من أرست أو أخرجت من النفوس نمط التجريم والأبلسة، معطوفاً على ضحالة فكرية غير مسبوقة. المطلوب الاعتراف بأن للحرب، برغم الغبار الكبريتي الذي أثارته، دوافع عميقة ووجودية وجادة. فتعالوا “نثور” وننتفض على أصل المعضلة لا على ظواهرها والقشور. بدأت أقرأ بعض مقترحات رموز الساحات. بالأمس غالوا في أفكارهم، وبعد أن أمسكوا بقلمٍ وورقةٍ، تشعر بأنهم تعقّلوا إلى درجة تدوير زوايا لا تُدوَّر.
رابعاً: واهمون أنتم إذا اعتقدتم بأن تبديل الأشخاص في هذا النظام، كافٍ لينتفي الفساد وتعمَّ العدالة الاجتماعية، وننافس ديمقراطية إسكندنافيا، واقتصاد سنغافورة، وصناعة تركيا. واهمون أنتم بالتغيير من خلال المؤسسات، بالتجديد بواسطة قانون انتخابات. انتفاضةٌ على رموز النظام تنتهي، ولو كنتم قديسين، بنظام هو ذاته ولكن برموز مختلفة. “ثوروا” من أجل نظام جديد. ليس ثمة دولة نزيهة نظامها معطوب. الدستور السويدي صنع السويد. أليس هنالك فساد في السويد؟ أو في فرنسا؟ بلى. لكنه الاستثناء وليس القاعدة. الدستور اللبناني صنع لبنان، أليس هنالك قِيَمٌ في لبنان؟ بلى. لكنها الاستثناء وليست القاعدة. اختصاراً: النظام المعطوب يعطب الشرفاء، قبل أن يسرح ويمرح فيه الفاسدون.
خامساً: سقط نسق الثورة الانقلابية. ننام على نظام ونصحو على آخر. ولّى ذلك الزمن وليس هذا المطلوب. المطلوب صيرورة في الأفكار. تراكم في الخطوات. تبديل بوتيرة مثابِرة ولا تنتهي. الثورة اليوم أن تأخذ القرار وتناضل من أجله، لا أن تطالب بتحقيق الأمنيات بين ليلة وضحاها.سادساً: من العناوين التي تصلح لننقذ الانتفاضة، اقترح الآتي: بعد حكومة اختصاصيين مستقلة، برئيس حكومة قادر، يجب أن ننصرف إلى وقف التدهور الاقتصادي بخطوات مدروسة. وفي الموازاة ننكب على القضية الجوهرية. أي نظام نريد؟ عن طريق استفتاءات مرحلية ينخرط فيها كل اللبنانيين في الوطن والمهجر، ومن هم فوق الثامنة عشرة. استفتاء يحدد لنا إلى أي نظام يطمح اللبنانيون. هو استفتاء على اتجاه في الفكر السياسي، قبل أن نخوض في التفاصيل الدقيقة. هل تريدون نظام الطائف بعد تطبيقه نصاً وروحاً؟ هل تريدون نظاماً علمانياً؟ هل تريدون نظاماً فيديرالياً؟ نظاماً دينياً إسلامياً؟ اشتراكياً؟ شيوعياً؟ بعد تحديد الخيارات يُعدّ الخيار الجاد كل خيار حاز 15 في المئة من الأصوات. ثم ننطلق إلى استفتاء ثانٍ بتحديد أوضح، فاستفتاء ثالث وربما رابع. وفي كل استفتاء نسعى إلى الاقتراب أكثر فأكثر من الحقيقة والحقوق والتفاصيل. قد تستغرق هذه الصيرورة سنتين أو ثلاثاً. الأفضل ينتهي “العهد العوني” ثم نبدأ بلبنان جديد.
ختاماً، هي لعبة “صولد” انخرطنا فيها كلنا.