كثيرون ممّن استمعوا الى الرئيس المكلف سعد الحريري وهو يسرد أمس من على منبر القصر الجمهوري وقائع خلافه مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حول تأليف الحكومة توقعوا أن ينهي هذا السرد بإعلان اعتذاره الذي شاع كلام كثير عنه خلال الساعات الـ 48 الماضية التي سبقت اللقاء الثامن عشر بينه وبين عون، الامر الذي لم يُقدم عليه ولم يقل في الوقت نفسه: ماذا بعد؟
الذين واكبوا الاتصالات التي جرت بين اللقاء السابع عشر الخميس الماضي واللقاء الثامن عشر امس بين عون والحريري يؤكدون ان البلاد دخلت في ازمة حكومية وسياسية ودستورية مفتوحة، إذ لا احد يريد ان يقدم اي تنازلات، فلا عون في وارد التنازل عن تصوره للتأليف ولا الحريري في المقابل في وارد التنازل عن تصوره او في وارد الاعتذار عن التأليف، وخلفهما القوى السياسية التي تحاول اصطياد الوقت والفرص لحماية نفسها من الحساب راهناً وفي المستقبل في الوقت الذي يمارس المجتمع الدولي إزاء الوضع اللبناني، شعباً وسلطة وقوى سياسية، تارةً سياسة التلويح «بالويل والثبور وعظائم الامور»، وطوراً بالتشجيع على تأليف الحكومة سريعاً مشفوعاً بتكرار الحديث عن الوعود بالمساعدة إذا تحققت الاصلاحات التي يطالب بها هو ومجموعات الدعم وصناديقه.
في ضوء ما حصل وفي ظل التفسيرات والتأويلات الكثيرة التي أعطيت لـ»الإصطدام» بين عون والحريري، ذهب فريق من السياسيين الى دعوة الحريري الى الاعتذار طالما أن الازمة بينه وبين رئيس الجمهورية بلغت ذروتها بحيث تجاوزت الخلاف على الحكومة شكلاً وحجماً ومضموناً الى ازمة ثقة مستفحلة بينهما، ويقول هؤلاء: «فليعتذر الحريري ويلقي «كرة النار» في ملعب عون وحلفائه ويتسلّموا البلد ويصطدموا بحائط مسدود في ظل الانهيار الذي تعيشه البلاد، أما عدم اعتذاره فسيعني امرين: الاول، انه شريك في الانهيار القائم الذي يتعمّق يومياً نتيجة التأخير والتعطيل الحاصل لإنجاز الاستحقاق الحكومي. والثاني، انه طامع بكرسي رئاسة الحكومة ومتمسك بها بشدة ويخشى إن اعتذر ان يخسر فرصة العودة الى السرايا الحكومية والى امد ليس معلوماً»، علماً انّ المحيطين بالحريري ينفون هذا الامر ويلقون باللائمة على رئيس الجمهورية وفريقه ومعه رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل «الكامِن خلف معظم تفاصيل الاستحقاق الحكومي»، على حد تعبير البعض.
والذين تسنّى لهم الاطلاع على بعض تفاصيل ما دار في اللقاء الـ 18 العوني ـ الحريري وخلال الساعات التي سبقته يؤكدون انّ كلا الرجلين عاوَد برمجة مواقفه استعداداً لهذا اللقاء آخذاً في الاعتبار ما سبقه من تطورات، ولا سيما منها زيارة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لعون السبت الماضي، والذي بدا كأنه انتقل في خياراته الحكومية، لا السياسية، من ضفة الى اخرى متلمّساً على ما يبدو بعض المعطيات الخارجية والداخلية التي تكهّن البعض بأنها تنم عن تسوية ما بدأت تلوح في الأفق، ويبدو ان هذا الامر هو الذي لم يجعل اللقاء 18 بين عون والحريري حاسماً لجهة الاتفاق على الحكومة الموعودة.
لكنّ فريقاً آخر من السياسيين أكد أن عون والحريري متفقان منذ ما قبل 9 كانون الاول على توزيع الحقائب الوزارية السيادية منها وغير السيادية على كل الطوائف وعلى حجم الـ 18 وزيراً، لكن الخلاف هو على «الثلث المعطل»، فالحريري يتّهم عون بأنه يسعى للحصول على هذا الثلث أيّاً كان حجم الحكومة 18 أو 20 وزيراً أو اكثر. وفي المقابل ينفي عون هذا السعي ويتهم الحريري بأنه هو الذي يريد هذا «الثلث المعطل». ولذلك لم يوافق عون على الاسماء التي وردت في تشكيلة 9 كانون الاول الحريرية والتي كشفها الرئيس المكلف امس، وذلك لاعتقاده أنها تتضمن ثلثاً معطلاً يمسك به الرئيس المكلف، والحريري الذي أرسل له عون جدولاً بالتوزيعة الطائفية للحقائب الوزارية من دون الاسماء طالباً منه إسقاط الاسماء عليها، لم يستجب طلبه لأنه عندما نظر في هذا الجدول رآه ينطوي على ثلث معطّل يريده رئيس الجمهورية خصوصاً اذا رُفع عدد الوزراء من 18 الى 20 وزيراً، بإضافة وزير درزي ثانٍ ووزير كاثوليكي ثانٍ ايضاً.
الى اين من هنا؟
يقول معنيون ومتابعون للاستحقاق الحكومي ان الازمة دخلت في طور من التعقيد بنحوٍ بات يستحيل معه اتفاق المعنيين على حكومة اختصاصيين ولا حتى حكومة تكنوسياسيين، وأن الحل الوحيد بإنتاج سلطة جديدة يكون من خلال إجراء انتخابات مبكرة او إجراء الانتخابات العادية في ربيع 2022 الذي بات الجميع على مسافة سنة منها تقريباً، بحيث يتم تأليف حكومة من المستقلين يتوافق عليها الجميع وتكون مهمتها وضع الركائز الاساسية للاصلاحات المنشودة والمباشرة في تنفيذ الملحّ منها الذي يلجم الانهيار، وإجراء الانتخابات النيابية المبكرة لإنتاج سلطة جديدة، على أن لا يترشح رئيس هذه الحكومة واي من وزرائها للانتخابات ضماناً لعدم انشغالهم بمصالح انتخابية وعدم انحيازهم لأيّ فريق سياسي.
وفي موازاة ذلك، فإنّ المجتمع الدولي الذي لمس، مثل عامة اللبنانيين، ان المنظومة السياسية القائمة هي في غالبيتها فاسدة ومستمرة في الاستحواذ على السلطة ولا تريد اصلاحاً يؤدي الى إقصائها إن لم يقضِ عليها، إنما هو مُطالب بتنفيذ ما يلوّح به من فرض عقوبات على هذه المنظومة وكشف ما ارتكبته من فساد ومن سطو على المال العام، خصوصاً أنّ القاصي والداني يعرف ان هناك استحالة في معاقبة هذه المنظومة داخلياً وبالوسائل اللبنانية. فالمجتمع الدولي وحده، سواء كان دولاً كبرى ومؤثرة ام منظمة أممية، يعرف ملفات كل هذه المنظومة وهو القوة القادرة الوحيدة على معاقبتها، وهناك مؤشرات على هذه القدرة تتظهر من خلال ما يلوح به من عقوبات هذه الايام على مستوى الاتحاد الاوروبي والمعبّر عنه بكلام وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان والكلام الفرنسي عن فرض عقوبات على السياسيين اللبنانيين الذين يعطلون تأليف «حكومة المهمة» والمبادرة الفرنسية. ويرجّح البعض ان تسبق هذه العقوبات الانتخابات المبكرة في حال حصولها.
ولذلك ثمة من يقول انّ العلاج الانجع لِما وصلت اليه الازمة اللبنانية بكل تعقيداتها يتمثل بالمندرجات التالية:
– حكومة مستقلة برئيسها ووزرائها، تباشر تنفيذ الاصلاحات، وتحديدا الملح منها، والتحضير لتنفيذ بقية البنود التي باتت معروفة لدى الجميع.
– إجراء انتخابات نيابية مبكرة لإنتاج سلطة جديدة تتولى مسؤولية انقاذ البلاد وتستعيد ثقة الداخل والخارج بلبنان.
– فرض عقوبات دولية على كل سياسي او جهة من المنظومة السياسية القائمة المتورطة بالفساد، تبدأ بتجميد الارصدة المالية وتنتهي بتعريتهم امام الرأي العام واخراجهم من الحياة السياسية.
واذا كان البعض يطرح تفعيل حكومة تصريف الاعمال برئاسة حسان دياب، فإنّ هذا الامر غير كافٍ نظراً لعدم امتلاكها دستورياً صلاحية الحكومة الاصيلة، مع العلم انه اذا فقدت الحيلة ولم تؤلف الحكومة المستقلة للانتخابات والاصلاحات، فإنه في إمكان حكومة دياب ان تجري الانتخابات المبكرة في اي وقت، بدليل انها أعدّت العدّة لإجراء الانتخابات الفرعية لملء 10 مقاعد نيابية شغرت بالاستقالة والوفاة، وهي تنتظر تأمين الاعتماد المالي اللازم لإجرائها، على حدّ ما يقول وزير الداخلية العميد محمد فهمي.
فهل تكون حكومة المستقلين والانتخابات النيابية المبكرة وفرض العقوبات على منظومة الفاسدين طريق الخلاص؟