عندما كتب المفكر السياسي الفرنسي مونتسكيو في العام 1748 كتابه الشهير «روح الشرائع» كان يحلم بمجتمع سياسي ديمقراطي حقيقي يتكون من ثلاث سلطات: تشريعية، تنفيذية وقضائية. وكان يطمح ان تكون هذه السلطات مستقلة عن بعضها البعض ومتوازنة لأنه كان يخشى ان تتجمع بيد واحدة فيُساء استعمالها. لكن الفصل بين السلطات الذي اراده مونتسكيو لا يعني الإنفصال او الإستقلال بل التعاون الإيجابي في ما بينها.
هذا في دستور المجتمعات الديمقراطية السليمة حيث يوصف المجتمع بأنه دولة ديمقراطية حقيقية لأن دستوره يحدد لكل سلطة محتواها وحدودها وطريقة تعاملها مع السلطات الأخرى.
لكن لبنان لا يمكن نعته بأنه بلد ديمقراطي سليم لأن السلطات فيه هي في الواقع سلطتان دستوريتان فقط: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. اما السلطة القضائية فقد ورد ذكرها في المادة 20 من الدستور التي حفظت للقوانين العادية صلاحية تنظيم قواعد هذه السلطة. في حين ان الدستور نفسه نظم قواعد السلطتين الأخريين بنصوص دستورية.
من جهة ثانية نصت المادة الأولى من قانون اصول المحاكمات المدنية على ان القضاء هو سلطة مستقلة تجاه السلطات الأخرى في تحقيق الدعاوى والحكم فيها ولا يحد من استقلالها اي قيد لا ينص عليه الدستور.
غير انه وبالرغم من النصوص المذكورة اعلاه وخلافا للإنطباع بأن السلطة القضائية هي سلطة دستورية فإن الأمر ليس على هذه الصورة لأن قواعد هذه السلطة تنظمها قوانين عادية بحيث انها تعدل وفقا لإجراءات التعديل العادية بأكثرية عادية ايضا في حين ان تعديل المواد المتعلقة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية يستوجب اكثرية موصوفة لأن الأمر متعلق بتعديل دستوري.
اضافة لما تقدم ودون الدخول في التفاصيل ان مطالعة المواد القانونية المتعلقة بالسلطة القضائية يتبين انها ترتبط في معظمها بالسلطة التنفيذية وتحديدا بوزارة العدل مثل علاقة هذه الوزارة بأعمال التفتيش القضائي وتوقيف القضاة عن العمل لأسباب تأديبية الى ما هنالك من نصوص تظهر بشكل واضح مدى هيمنة وزارة العدل على السلطة القضائية.
ولعل ابرز مثال على هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية هو في عملية المناقلات القضائية التي تبدأ مشروعا في مجلس القضاء الأعلى المؤلف من عشرة قضاة، ثلاثة منهم اعضاء حكميون واثنان منتخبان من قضاة محكمة التمييز والخمسة الباقون تعينهم الحكومة مع مراعاة التوزيع الطائفي لأعضاء المجلس.
اما المرحلة الثانية من مشروع المناقلات القضائية وهي المرحلة التي يظهر فيها تدخل السلطة السياسية بصورة اكثر وضوحا فهي مرحلة وصول المشروع الى يد وزير العدل الذي يحق له بحسب القوانين المرعية ان يناقش في اسماء القضاة وفي مراكزهم حتى اذا لم يرقَ له الأمر امتنع عن توقيع المشروع.
اما المراحل الأخيرة فهي مرحلة وجود المشروع امام وزير المالية الذي اولاه القانون فقط حق مراقبة ما اذا كانت الأعباء المالية التي رتبها المشروع يوجد ما يغطيها في الموازنة، لكن هذا الوزير تجاوز مؤخرا هذا الحق واستبقى مشروع المناقلات لديه دون توقيع بحجة عدم مراعاته للتوازن الطائفي!!! ثم ان المرسوم لكي يصبح ناجزا يجب ان يمر برئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ويقترن بتوقيع كل منهما، ومن الطبيعي ان لكل منهما ان يمتنع عن توقيع المرسوم لأي سبب من الأسباب وهذا ما حصل بالفعل عندما رفض رئيس الجمهورية توقيع مرسوم التشكيلات الأخير مما عطل آلة العمل القضائي.
من هنا يتبين كيف ان السلطة التنفيذية تهيمن على عمل السلطة القضائية من ناحية آلية التعيينات القضائية والمراكز، لكن المؤلم اكثر هو ما تملكه السلطة التنفيذية ومعها باقي السلطات الأخرى من قانونية وواقعية في اختيار مواقع القضاة الحساسة بحيث يصبح بمقدور هذه السلطات ان تمارس ضغوطا تتناسب مع ارادتها وتفرضها على القاضي المعني الذي يشعر بأنه مدين لمن عينه وينفذ له ما يطلب وهكذا يفقد هذا القاضي احدى اهم صفاته وهي الحيادية.
ad
ازاء تزايد ضغوطات السلطة السياسية وتدخلها السافر في الشأن القضائي تنادى اشخاص ومنظمات المجتمع المدني للمطالبة باستقلال القضاء وقدمت مشاريع قوانين كثيرة لكن أياً من هذه المشاريع لم يبصر النور بعد وقد لا يبصره في وقت قريب لأنه يروق للسلطة السياسية الحاكمة ان تهيمن على القضاء من اجل فرض سلطتها بوجه اخصامها، وهذه هي حال دول العالم الثالث ومنها لبنان التي تحتفظ بالقضاء بيدها من اجل تشريع اعمالها الغير المشروعة.
من الأنسب ان يقال اننا بحاجة الى قانون يحمي القضاء والقضاة من تسلط وتدخل السلطة السياسية الحاكمة، وهذا القانون اذا قُيِّضَ له ان يرى النور فسوف يكون الخطوة الأولى في مسيرة استقلال القضاء ويتحقق شعار «ارفعوا ايديكم عن القضاء». زِدْ على ذلك وبالتناغم مع هذا القانون يقتضي توطيد سلطة القضاء والسماح له بأن يدير نفسه بنفسه بأن يكون من صلاحية مجلس القضاء الأعلى اصدار المناقلات القضائية وحده دونما حاجة لأية تواقيع من أي جهة أخرى،لأن مجلس القضاء هو الأدرى بمشاكل القضاة. ولكي يكون هذا المطلب قابلا للتحقق يجب ان يكون جميع اعضاء مجلس القضاء منتخبين من الأسرة القضائية. هذا فضلا عن مقترحات اخرى تفصيلية عسى ان يأتي اليوم الذي تتحقق فيه.