ليس بقليل ما حقّقته انتفاضة الشارع اللبناني في خلال أسبوعين. أوّلاً أجبرت الحكومة على الإستقالة، وثانياً فرضت أجندتها على كافة الطبقة السياسية. فبعدما باءت بالفشل المحاولات المتكرّرة لتسييسها تارة أو تخوينها تارةً أخرى، إضطر أركان السلطة، إلى ملاقاة مطالبها، أقلّه في الشكل ومحتفظين بالمضمون ألا وهو محاولة إنقاذ نظام المحاصصة السائد منذ أكثر من عقد.
فبعدما وُضعت الخطوط الحمر أمام استقالة الحكومة، إنتهت الأمور بالقوى الحامية للسلطة إلى الإقرار بأحقّية مطالب الثوار. قد تكون هذه الإنعطافة عن حسن نيّة وقد تكون أيضاً عملية إستيعابية بهدف الحدّ من خسائرها، إلتفافاً من أجل إنقاذ هذا النظام التشغيلي نفسه ولكن بحلّة جديدة يُطلق عليها اليوم إسم تكنوسياسية. فهل حكومة من هذا النوع قابلة للاستمرار، والأهم من ذلك هل هي قادرة على إنقاذ البلاد من عمق الأزمة الإقتصادية وتلافي الإنهيار؟
أوّلاً لا بد من التوقف عند مطالبة الثوار بحكومة تكنوقراطية. والواقع أن ما عناه الحس الشعبي – نقول الحس الشعبي لأنه أفضل معبِّر عن حال الثورة التي ترفض أي جسم منظّم ناطق بإسمها – بحكومة تكنوقراط ليس فقط حكومة من التقنيين أو أصحاب الكفاءة والإختصاص، إنما أيضاً وأوّلاً حكومة بعيدة عن هذه الطبقة السياسية التي تُحمِّلها الثورة ما آلت إليه الأمور على المستوى الإقتصادي والإجتماعي.
فالمشكلة ليست تقنية وليس سببها عدم توفّر الخبرات أو الدراسات الفنية. فالحقيقة أن الدراسات كثيرة في مكاتب الوزارات وأدراج مجلس النواب. فما ليس متوفراً هم الأشخاص، أي نساء ورجال، رجالات دولة، يحملون هذه الإصلاحات ويدخلونها حيّز التنفيذ.
المشكلة إذن ليست تقنية لكي تستدعي معالجتها حكومة “تكنوقراط”. المشكلة في عمقها سياسية لا بل أخلاقية تتطلّب معالجتها الإطاحة بنظام المحاصصة. هذه هي الصدمة الإيجابية التي تُعيد وصل ما انقطع، وتُعيد الثقة المفقودة بين الدولة وشعبها وبينها وبين المجتمع الدولي. وليس طرح الحكومة التكنوسياسية سوى محاولة لتعويم هذا النظام المتهالك الذي لفظه الشعب الثائر.
حكومة نظيفة، مستقلة، من أصحاب الكفاءات والفضيلة، ومع صلاحيات استثنائية لفترة وجيزة تمكّنها من تخطّي عقبة البرلمان، النموذج المضخّم للحكومة المستقيلة، وحدها قادرة على المضيّ بالإصلاحات وإقناع المجتمع الدولي أن هناك شيئاً ما تغيّر في البلد الصغير. وأن الأوان آن لملاقاته ومساندته.