بالرغم من كل المسكّنات والمحسّنات والمطيبات، وبالرغم من الآمال المبنية على كلام معسول ومشغول، لا بد من المثابرة على التطرّق للحقيقة والتعاطي مع الواقع.
هذا الوطن المنكوب، يزداد انتكاباً يوماً بعد يوم، ولم يعد إطلاقاً على شفير الهاوية: هو اليوم مع كل الأسف، قد بات في صُلبها وفي عمقها، وهو مهدد بالتالي بأسوأ العواقب التي يمكن أن تمسّ كيانه بالصميم، وهذه بعض المعالم والمؤشرات على هذا الإنتكاب المستمر:
– لبنان أصبح وطناً بدولتين، إحداهما نشأت دويلة، ونمت مع الوقت نموّاً كيميائياً إصطناعياً متذرعة بأسباب أمنية وقومية ووطنية، حتى أصبحت مع الوقت وبفعل فاعل أجنبي، قدّم لها العون والحماية والسلاح والخبرة والإستخبار الأمني، حتى أصبحت هي الدولة التي أمسكت بمعظم الخيوط والخطوط الفاعلة، والتي تكاد مع الوقت أن تمسك بمعظم خطوط وخيوط الحكم والحكومة، بسلطتيها التشريعية والتنفيذية، وهي تتهيأ إلى إحكام قبضتها على القضاء والإدارة، وعلى الإقتصاد من خلال جباياتها الخاصة وتحكماتها بالجمارك البحرية والجوية والبرّية. وها هي تخترق مبدأ سيادة الدولة على أراضيها وعلى قراراتها بما فيه قرار اجتياح بلد شقيق مجاور ومقاتلة شعبه، حيث لا يقتصر إزهاق الأرواح على أبناء الشعب السوري وحده، بل يطاول مواطنين لبنانيين يقاتلون باسم الدويلة- الدولة على الأرض السورية وفي داخل مدنها وقراها كما يطاول الخطر والضرر، مصالح اللبنانيين كافة من خلال انخراطها في حرب مذهبية بامتياز وفي حرب إعلامية حادة ضد دول عربية شقيقة تضم في ربوعها وفي أعمالها مئات الألوف من اللبنانيين من الفئات والمذاهب كافة، وهؤلاء بدأ بعضهم بدفع الثمن، ومعظمهم المتبقي في طريقهم إلى الدفع المكلف والمؤسف.
– ها هي السلطات الوطنية كافة تسقط سلطة بعد سلطة، فبعد تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية ما بات يناهز السنة والنصف، وبعد أن باتت الدويلة – الدولة وتوابعها المحليون، تفاخر بهذا التعطيل وتعلنه «ماركة مسجلة» لأسلوبها في العمل والتعاطي، وتلحق به تعطيلاً آخر لمجلس النواب وسلطته التشريعية بحيث نجحت حتى الآن في منع المجلس النيابي من النظر بتشريعات الضرورة، وبعد أن تجاوزت مبدأ وجوب التقيد بالمبدأ الدستوري الذي يحصر صلاحيات المجلس النيابي بعد انتهاء عهد الرئيس سليمان، بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهي قد وصلت في عمليات التعطيل القسري إلى السلطة التنفيذية والحكومة اللبنانية التي باتت كما رئاسة الجمهورية وكما مجلس النواب، مؤسسة حاكمة دون حُكْم ودون قرار، تتسرب منها سلطاتها يوماً بعد يوم، إلى الفراغ الكامل، وإلى السقوط المريع في مهاوي الدولة الفاشلة بكل التوريات والتلافيف والمخبّآت التي يمكن أن تفضي إلى إلغاء الدولة القائمة توطئة لإلغاء النظام القائم بما قد يدخل البلاد وتركيبتها الميثاقية شديدة الدقة والحساسية، في أخطار كيانية كبيرة مفتوحة على كل المكاره والإحتمالات.
– شؤون البلاد والدولة والمواطنين، معطلة بالكامل نتيجة للمعطيات المذكورة أعلاه، وللأجواء السلبية العامة التي تسود البلاد، وفي مقدمتها «مبدأ» مستجد على الحياة اللبنانية ومتمثل في مقولة أنا أو لا أحد، ومن بعدي الطوفان، حيث يتوجب من خلال نظرياتها الغريبة العجيبة، إلغاء الدستور والمبادئ الديمقراطية والميثاقية ومبدأ القرارات التوافقية بين الفئات المكونة للشعب اللبناني بأطيافه كافة، وإذا بنا أمام خيار لا خيار فيه لغير البصم والموافقة المفروضة على رئيس واحد لا شريك له ولا بديل.
– يتمثل ذلك خاصة في أزمة الزبالة التي طاولت كل لبنان، أرضاً وشعباً ومؤسسات، وتنغمس طاقات الوطن وفاعلياته وقياداته وزعاماته في محاولات حثيثة لإيجاد حل لها، لتفلح يوماً ولتفشل أياماً ولترضى عنها منطقة ما لتقوم القيامة ضدها في منطقة أخرى، ولتماشيها طائفة أو مذهب لتتغلب عليها وفوقها وعلى جانبها طائفة أخرى ومذهب آخر إلى أن مرت الأيام بالقاذورات فوصلت وطالت كل الشوارع والساحات وأماكن الحضور العام، ومجريات الأنهار والسواقي، وصولاً إلى بيوت المواطنين، وإلى التشهير بهم وبسمعتهم في العالم كله، والتشكيك في مكامن الحضارة والتقدم لديهم. وها هي الزبالة تصبح قضية مستفحلة تزداد الصعاب من حولها يوماً بعد يوم، وكأنما هي قضية الآخرين على الأرض اللبنانية، وكأنما دور الآخرين حيثما كان في هذا العالم القريب أو البعيد، أن يشهدوا على عارنا وفشلنا وتدهورنا الفكري والحضاري.
– جديد المؤشرات، التهديد بمنع لقمة العيش الكريم عن أفواه اللبنانيين التابعين للوظيفة العامة بما فيها الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية اللصيقة به، متناسين الأهمية القصوى التي يمثلها أفراده ودوره على الصعيد اللبناني كله، ومتناسين خاصة أنه ينتمي إلى فئة من أبناء هذه الدولة العتيدة، التي تحفل سجلات الشرف لديها بمئات الشهداء والمصابين إلى حدود الإعاقة، وآخر الشواهد على ذلك استشهاد جنديين بذلا روحيهما في محاربة تجار المخدرات والرذيلة فتناثرت استشهادات ابنائنا، ابناء الجيش، في كل ساحة وكل ميدان، بدءًا من ساحات القتال الحقيقي ضد الأعداء، ومروراً بحفظ الأمن الداخلي من صولات وجولات المخربين، وصولاً إلى تنقية الوطن من براثن الشر الإجتماعي المتغلغل في أوساطه. إن منطق الأمور يدفع الجميع باتجاه الإشادة بهؤلاء الأبطال وتكريمهم مستغربين في الوقت نفسه، منطق النكايات وتعطيل البلاد إلى درجة الشلل التام دون أن يدركوا أن الأمور إذا أفلت زمامها لأي سبب ولأي افتعال، فليس هناك سوى هذا الجيش والمؤسسات الأمنية المواكبة له من يمكن أن يضع حداً لفلتان غامر وقاتل وشامل.
مؤشرات كثيرة أوردناها، وهناك مؤشرات تتكاتف على مرّ الأيام والمستجدات والصعاب مختلفة الألوان والأحجام، ومع تفهمنا الكامل للأسلوب المنتهج في الحكم من قبل الرئيس سلام، وقد سبق لغالبية المواطنين من جميع الجهات والإتجاهات أن أيدّوه في مواقفه العقلانية، إلاّ أننا بدأنا نتساءل مع جموع كبيرة منهم: إلى متى يمكن الإستمرار في وضعية التصرفات الحكيمة والرصينة ذات الركائز المبنية على الصبر والسلوان؟ لقد سمعنا الرئيس سلام يردد في أكثر من مناسبة بأن الكيل قد طفح، وأن للصبر حدوداً، ونعلم أن كثيرين يستغلون هذا النهج الحكيم لما فيه تحقيق غاياتهم المنطلقة من غرف سوداء، ونعلم أن قيادات وطنية عليا ما زالت تتمسك بالواقع الدستوري السليم، الآمر والملزم إلاّ أن المطلوب وطنياً وشعبياً، وقفة وطنية واحدة تنزل عن أكتافها بعضاً من أثقال سياسة الصبر والتأني والتمني، إلى سياسة فيها بعض من العزم ومماشاة الأفق الأوسع والأرحب الذي يضم دون شك رغبات الوطن والمواطنين الحقيقية. كثيرون يرغبون من الرئيس سلام ويتوجهون إليه بطلباتهم المتمثلة بقرارات الضرورة الوطنية والإقتصادية والمعيشية وقد شاءت الظروف أن تكون في عهدته، كما وشاءت أن يكون رباناً إلزامياً وسط كل هذه العواصف والرياح العاتية، إنه ملزم إلى حدود الطلب إليه بتحقيق المعجزات والولوج الحازم إلى عملية إنقاذ السفينة اللبنانية ومن فيها من هول الأمواج، وكما كان الزعيم الراحل صائب سلام يقول في حديثه عن المقاصد: للمقاصد رب يحميها، أن يجاريه ابنه تمام في خضم مسيرة البلاد الصعبة: للبنان رب يحميه، وتحت هذا الشعار سيحمي الرب لبنان في معمعة الانقاذ والخلاص القائمة.