IMLebanon

مؤشرات التخبّط الإيراني عشية اشتداد المأزق

 

لا اتفاق في طهران على ما إذا كانت العقوبات الأميركية الوشيكة خطيرة أم لا على اقتصاد إيران، فالمواقف متفاوتة بين الحكومة ومجلس الشورى، ومتناقضة بين رجال الاقتصاد وقادة «الحرس الثوري»، ما يشير إلى أن الجميع يستشعر فعلاً جسامة المشكلة لكن تقويم تداعياتها يتوقف على المواقع والمصالح الضيقة والصراعات بين الأجنحة السياسية. وتبعاً لذلك يتأرجح مصير الرئيس حسن روحاني، إذ يقال في يوم أن البرلمان يعمل على إسقاطه، ليقال في يوم آخر أن البرلمان ينتظر من الحكومة مبادرات لمعالجة التداعي الاقتصادي، ثم يقال في يوم ثالث أن المرشد على خامنئي بعث برسائل وإشارات تجدّد الثقة بروحاني.

 

 

كل ذلك يفيد بأن المأزق واقع وليست هناك خيارات محدّدة أو معجزات متوقّعة لإحباطه، لذا يجرى التعامل معه على أنه اختبار لـ «نهج المقاومة» يجب خوضه. المرشد وجد في تصريحاته الأخيرة أن مواجهة العقوبات تتطلّب أمرين متوفّرين في رأيه: الأول «بالوحدة يمكننا التغلّب على كل الأزمات»، والآخر أن إيران قادرة على مقاومة الضغوط الأميركية «بالاعتماد على مواردها الطبيعية والبشرية». بالنسبة إلى «الوحدة (الوطنية)» ربما أصبح من الضروري مراجعة السياسات لصون مقوّماتها، فالإيرانيون وطنيون إذا ما تعلّق الأمر بخطر خارجي يتهدّد بلدهم، لكن الانتفاضات الشعبية أطلقت مآخذ واضحة برفضها تسخير إمكانات إيران في حروب ومغامرات خارجية، وحفلت بأقسى الاتهامات لرموز الحكم سواء بالفساد أو بسوء إدارة البلد، ما كشف أن ثمة هوّة واسعة بين المجتمع والنظام. أما الاعتماد على الموارد الطبيعية والبشرية فلا شك في أنه متّبع منذ فُرضت العقوبات، وأنه مكّن إيران من الصمود، غير أن هذه الموارد وأهمها النفط مستهدفة للمرة الأولى بالعقوبات وستتأثّر بها، بالتالي فإنها قد لا تتمكّن من القيام بالمهمّة التي يتصوّرها خامنئي، بل كان يمكن جدوى هذه الموارد أن تكون مضاعفة في ظل اقتصاد متعافٍ وقيد التطوير وليس فقط بتوظيفها في التحايل على العقوبات.

 

في عملية التفاوض على الاتفاق النووي، أدرك روحاني وفريقه أن ثمة سبيلاً واحداً للخلاص من العقوبات، وهو تكيّف إيران مع المجتمع الدولي ومعاييره، ومن أبرزها أن تستخدم الدول مواردها للتنمية وتحسين معيشة شعوبها قبل الإنفاق على توسيع نفوذها في الخارج. أما إيران فسعت إلى تطويع المجتمع الدولي لمعاييرها وإلى جعل الاتفاق النووي إطاراً لـ «شرعنة» تعميمها الصواريخ الباليستية على أتباعها، وكذلك لغزوات «حرسها» وميليشياتها ودعمها جماعات التطرف والإرهاب. لم يكن لهذه المناورة الخبيثة أن تنجح سواء أقدم دونالد ترامب أم لم يُقدم على الانسحاب من الاتفاق. وفي ما يبدو فليس هناك تقويم إيراني ثابت لهذا الانسحاب الأميركي، ذاك أن طهران بدأت بالسخط وأتبعته بالاستهزاء، ثم لوّحت بانسحاب مماثل من الاتفاق وباستئناف تخصيب اليورانيوم، وانتهت إلى اعتبار أن أميركا هي المتضرّرة لا إيران.

 

بعدما أنذر خامنئي وروحاني بأن إيران ستمزّق الاتفاق وتعتبره ساقطاً، وبأن ترامب «سيندم» لأن قراره سيتسبب في «عزلة» دولية لأميركا، ها هي المواقف الأخيرة لروحاني بعد خمسة شهور تعلن أن إيران ستلتزم تقييد برنامجها النووي وفقاً للاتفاق. لماذا؟ لأن «الجميع يعلم أن أميركا مُنيت بهزيمة قانونية وسياسية عندما تخلّت عن التزاماتها الدولية، ولقد حقّقنا الانتصار». ولكن أي انتصار؟ «كان الأميركيون يتوقّعون منا أن ننسحب من (الاتفاق) بعد ساعات من إعلان انسحابهم، وماذا كان سيحصل؟ ستعود المسألة إلى مجلس الأمن وتتحوّل ضد إيران وتعزلنا»… كانت طهران، بحسب طبيعة نظامها وإثباتاً لكونها «دولة عظمى إقليمية»، تتوق إلى الردّ على واشنطن بالمثل، غير أن الشهور التي سبقت الانسحاب الأميركي حفلت بالاتصالات مع الدول الأخرى الموقّعة على الاتفاق، خصوصاً بريطانيا وفرنسا وألمانيا التي لم تلفتها إلى الاعتبارات القانونية والسياسية، فحسب بل أنذرتها بأن ثمة مشكلة تتعلق ببرنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية ولا بدّ من التفاوض عليها، فحتى لو كانت منطلقات ترامب عدائية تجاه إيران إلا أنها تستند إلى منطق مفاده أن ممارسات إيران تتناقض مع روح الاتفاق النووي وخلفيته السياسية.

 

كانت هناك حاجة، إذاً، إلى التفكير بعقلية أخرى غير متوفّرة في طهران. فالفرصة التي أتيحت لها مع إدارة باراك أوباما انتهزتها لتعمل عكس ما كان يُنتظر منها، إذ اغتبطت بأنها استدرجت تلك الإدارة إلى التواطؤ معها لتمرير كل مخططاتها التخريبية في سورية والعراق واليمن، واغتبطت أيضاً بأنها أطاحت كل مسعى تطبيعي مع واشنطن. لم يكن واقعياً خروج إيران من المفاوضات النووية بانطباع بأن الدول الغربية الأربع «موافقة» ولو ضمنياً على سياساتها، بدليل اندفاع معظمها إلى إبرام صفقات معها، لكن نهج تحييد أميركا أو «عزلها» كان ولا يزال أيديولوجياً بحتاً بمقدار ما أنه قصير النظر، إذ يبرهن أن الملالي بنوا نظامهم وسطوتهم على قطيعة أبدية مع أميركا، فهم يفضّلون تلقّي عقوباتها بعدما حوّلوها وسيلة شحن عقائدي ويخشون أن يؤدّي أي انفتاح عليها إلى إضعاف سلطتهم. وإذا كانت لديهم تنازلات فإنهم يقدّمونها إلى دول أخرى، غربية أو غير غربية، على أن تكون «شكلية» ولا خطر فيها على النظام.

 

ليس أدلّ على ذلك من النقاش الذي شهده البرلمان الإيراني في سياق إقرار قانون لمكافحة تمويل الارهاب، إذ قُدّم هذا القانون باعتباره «أساسياً لإنقاذ الاتفاق النووي» بطلب من «الشركاء الأوروبيين والآسيويين» الذين ألحّوا على انتساب إيران إلى الهيئة الحكومية الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب (مجموعة العمل المالي «غافي») التي كانت وضعت إيران وكوريا الشمالية على لائحتها السوداء. المفارقة في تمرير هذا القانون أن معارضيه المتشدّدين كانوا أكثر «شفافية» في طرح آرائهم، فهو قد يتسبّب في إشكالات لـ «الحرس الثوري» أو يحدّ من قدرة إيران على دعم ميليشيات تابعة لها مثل «حزب الله» وسواه لأن «غافي» تأخذ بالتصنيفات الدولية وربما تتأثّر بالأميركية. تنازع المعارضون والمؤيدون على مَن منهم يعرف موقف خامنئي، فهو لم يؤيّد الانضمام إلى تلك الهيئة الدولية، لكن علي لاريجاني حسم بأن المرشد لا يعارض إقرار القانون، فيما قال النائب الإصلاحي محمد فيضي أن إيران «لا تملك رفاهية الاختيار». وهكذا بدت المسألة مزيجاً من الانتهازية والشكلية أكثر منها تشريعية، ولم يمرّ الأمر من تراشق باتهامات «الخيانة»، فهذه من المرات القليلة التي يناقش فيها البرلمان قانوناً متوافقاً مع المعايير الدولية.

 

تمثّل هذه العيّنة من النقاش مدى صعوبة كسر العُقد المتعلقة بالحوار مع الولايات المتحدة. ليس فقط بمستواها الأيديولوجي أو حتى النفسي، لكن أيضاً بما يشكّله أي تطبيع من تهديد لمنظومات مصالح أنشئت على أساس العداء لأميركا. كرّر المسؤولون الإيرانيون طوال الشهور الماضية، ومنهم روحاني أخيراً، أن واشنطن تعمل على تغيير النظام، يقولون ذلك بلهجة الاتهام وبقصد «التشهير» بنهج أميركي خالف ميثاق الأمم المتحدة لدى غزو العراق وأفغانستان لتغيير النظام فيهما. لم يكن هذان النظامان نموذجين يستحقّان الاستمرار بل التغيير، لكن الغزو والاحتلال كانا الوصفة الأكثر سوءاً، خصوصاً أن إيران نفسها غدت المستفيدة الأولى ولعلها الوحيدة من إسقاطهما. لا أحد يتوقّع غزواً لإيران لكن تقويم نظام الملالي لا يختلف عالمياً عما هي النظرة إلى النظام السوري أو ما كانت عليه تجاه نظامي صدام حسين و «طالبان». وعندما يقول الأميركيون أن المطلوب من النظام الإيراني «تغيير سلوكه» فهذا يستحق من الملالي وأتباعهم شيئاً من التبصّر، فقبل الأميركيين كان شعبهم وجيرانهم أول من طالبهم بتغيير سلوكهم.