ارتفاع منسوب التوتر في المنطقة لا يعني بالضرورة أننا ذاهبون إلى حرب قريبة. صحيح أن احتمالات المواجهة قائمة طوال الوقت، لكن من المفيد التدقيق في نوع التوتر القائم. إذ إنه يسود المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية في إسرائيل، فيما لا يمكن الحديث عن توتر لدى الجبهة المقابلة، حتى ولو كانت إجراءات الحذر والاستنفار في أعلى درجاتها. فهذا سببه أن احتمالات جنون العدو في خوض مغامرات أمر وارد طوال الوقت، وتبدو أكثر احتمالاً مع حالة التوتر الحالية. التمييز هنا هدفه التأكيد أن أي مواجهة أو حرب أو ما شابه قد يحصل في الفترة المقبلة، فهو حكماً سيكون بقرار إسرائيلي، وبتغطية أميركية وتواطؤ حلفاء العدو بمن فيهم بعض الدول العربية.
ولذلك فإن قراءة ما يجري من حولنا، تلزم النظر بدقة إلى الآتي:
أولاً: إن المقاومة في لبنان على وجه الخصوص، تواصل عملية تطوير قدراتها العسكرية على اختلاف أنواعها، وهي مهمة متعبة للمقاومة لكنها اتخذت مساراً مختلفاً عن السابق، وهو ما يربك العدو أكثر. إذ يعرف أن توجيه ضربات مباشرة في لبنان دونه مخاطر الحرب الكبيرة. لذلك يواصل مساعيه لتنفيذ عمليات ذات طابع أمني ضد المقاومة في لبنان، لكنه قفز إلى الأمام كثيراً عندما استهدف مطار دمشق الدولي بضربة أخرجته عن الخدمة. وهو ارتقاء في إيذاء الدولة والنظام في سوريا من زاوية «لم نعد نحتمل ما تقومون به»، في إشارة إلى الرواية الإسرائيلية بأن المقاومة في لبنان تستخدم مطار دمشق ليس لتهريب صواريخ بل لتهريب تكنولوجيا صغيرة تلعب دوراً في تعديل نوعية وفعالية الصواريخ والمسيرات الموجودة لدى المقاومة، حتى وصل الأمر بضابط كبير في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إلى القول إن ما كان حكراً على جيوش دول عظمى صار متاحاً بين أيدي حزب الله وحلفائه، مع إشارة مباشرة منه إلى الصواريخ الدقيقة وإلى المسيرات التي تقطع مئات الكيلومترات وتصيب أهدافاً نقطوية.
وفي هذه الحالة، يبدو أن العدو أمام معضلة، بين البقاء في موقع «العداد» الذي توقف العمل به منذ سنوات، وبين التقدم خطوة نحو توجيه ضربة مؤثرة. وفي هذه الحالة، يفترض بالعدو أن يحسم خياراته على ضوء تقديرات لا تستند فقط إلى الحافزية، بل إلى عناصر الحد المتوسط من النجاح، علماً أنه قرأ نتائج الانتخابات الأخيرة في لبنان بطريقة سلبية، خصوصاً عندما تيقن من أن تركيبة الدولة اللبنانية وطبيعة القوى المتنازعة لا يمكن أن تكون محل رهان لإضعاف المقاومة.
ثانياً: تبدو إسرائيل في حالة توتر إزاء الملف الأكثر حساسية هذه الأيام، وهو المتعلق بالنفط والغاز في البحر. صحيح أن تل أبيب تمكنت من استهلاك الوقت السابق لإنجاز خطوات عملانية قربتها من لحظة الاستخراج. إلا أن ما طرأ من تطورات في الأسبوعين الماضيين جعل الأمر محفوفاً بمخاطر كثيرة، لأن إسرائيل أخذت في الاعتبار تهديدات حزب الله وبنت عليها خطة تمركز سفينة الاستخراج، وشجعت واشنطن على إيفاد عاموس هوكشتين إلى بيروت لفتح الباب أمام تفاوض جديد. لكن إسرائيل تعرف أن عليها التنازل بصورة تسمح للحكومة في لبنان بالسير في اتفاق يفيد الشعب اللبناني، وفي حال تمنعت، تعرف أيضاً أن ما أعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله صار ملزماً للمقاومة. بالتالي، يكفي أن تعلن الدولة اللبنانية أن هناك تعديات على حقوق لبنان، أو أنه لا وجود لاتفاق، حتى تبادر المقاومة إلى ترجمة الأمر بتعطيل أي نوع من عمليات الاستخراج من قبل العدو. وهذا بحد ذاته خطوة لها حساباتها من جانب المقاومة، لكنها قد تكون باباً لمرحلة أعلى من التوتر من قبل إسرائيل. وهو أمر يجب أن يدعو العدو إلى القلق لأن احتمالية المواجهة الواسعة قائمة، خصوصاً أن المقاومة في لبنان أبلغت من يهمه الأمر، بأنه لا يوجد في قاموسها شيء اسمه أيام قتالية، بل هناك حرب وهي ستختار الطريقة التي تتعامل بها مع استحقاق كهذا.
المقاومة أبلغت من يهمه الأمر بأنه لا يوجد في قاموسها شيء اسمه أيام قتالية بل حرب وهي ستختار الطريقة التي تتعامل بها مع استحقاق كهذا
ثالثاً: التوتر المتصل بمجريات التفاوض العربي – الإيراني، وهو تفاوض ينطلق من اعتبارات أساسها أن دولاً عربية بارزة تخشى اندلاع مواجهة تؤدي إلى تعرضها لأذى أكبر بكثير من المتوقع. بينما تعرب إيران عن استعدادها لتفاهمات مع كل العالم العربي، بدءاً بالسعودية والإمارات وصولاً إلى مصر ودول المغرب العربي. لكن إيران، قالت لكل هؤلاء أيضاً، إن قبولهم بتحويل بلادهم إلى مقرات لأعمال ذات طابع عسكري يخص العدو، لن يسمح بإبقاء التفاهمات القائمة على حالها. وهو أمر ينذر بمخاطر اندلاع مواجهة أوسع من حرب تخص جبهة لبنان وحده أو حتى جبهة لبنان وسوريا معاً. مع الإشارة إلى أن ملف العلاقات العربية – الإيرانية مرتبط هو أيضاً بنتائج الاتصالات الخاصة بالاتفاق النووي، حيث بات الجميع يستبعد حصول اتفاق، إنما لم يقفل الباب بصورة نهائية. وهناك قلق مزدوج لدى الإسرائيليين والدول العربية الحليفة لأميركا من انهيار المفاوضات وانتقال إيران إلى عتبة عالية جداً من التخصيب، بينما تظهر الجهات نفسها قلقاً أكبر من اتفاق يتيح لإيران الحصول على موارد مالية كبيرة تساعد على معالجة مشكلاتها الداخلية وتسمح برفع مستوى الدعم لحلفاء إيران في المنطقة.
مؤشرات التوتر كبيرة، لكن للحرب حسابات مختلفة. والتوتر الذي يقود إلى حرب كبيرة، من شأنه أحياناً كبح جماح أصحاب الرؤوس الحامية… ونحن في انتظار واحد من الخيارين!